تبقى الأزمة السورية هي النزيف الدامي في جسد الأمة العربية والجرح الأكثر إيلاماً في وقتنا الراهن، والأكثر تغطية ومتابعة بسبب الكارثة الكبيرة التي لا حدود لحجم وأبعاد معاناتها وخسائرها وتذكرنا بها يومياً وعلى مدار الساعة وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون وصولاً لعرض أشلاء وصور مؤلمة وأخرى لا تحتمل لمن يتضور جوعاً، وصرخات الأطفال «نحن جوعانين» و«بدنا ناكل». وصور أخرى لأطفال ومسنين يموتون جوعاً وسط حصار تصفه منظمات إنسانية بأنه يرقى إلى مستوى جرائم الحرب.. وكأنه كُتب على السوريين الموت إما قصفاً بالصواريخ والبراميل المتفجرة، أو بالكيماوي، أو جوعاً.. ومع تفاقم الأزمة السورية تستمر آلة الموت في ملاحقة السوريين لتقتلهم مع اللبنانيين والأردنيين والأتراك بقصف، وتفجير سيارات مفخخة في تلك الدول! وتفرض الأزمة السورية نفسها بقوة هذا العام كاستحقاق مهم وبحاجة إلى حل عاجل يُوقف استمرار النزيف وسقوط ما يقارب 150 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى و11 مليون نازح ومُهجّر في الداخل السوري، وقد تعطلت 40 في المئة من مستشفيات البلاد. وتم ترحيل نصف الشعب السوري ما بين مهجر ونازح ولاجئ! وما يزيد المشهد قتامة هو غياب أي حل سياسي أو عسكري لوقف الانزلاق السريع لسوريا في أتون حرب أهلية وطائفية ومذهبية بالوكالة وسط انقسام وتصدع داخلي أفقي وعمودي، وأدوار للاعبين إقليمين ودوليين، وتصارع وتضارب أجندات وأهداف حتى داخل جسم المعارضة نفسها التي تبدو اليوم أكثر تفككاً وتشظياً. وفي هذا الوقت هناك أزمة إنسانية خانقة ومؤلمة هي الأكثر سوءاً في عصرنا الحالي. وقد دفعت الأمم المتحدة في منتصف ديسمبر الماضي لإطلاق أكبر دعوة للتضامن الدولي وجمع أموال لقضية إنسانية واحدة هي «الأزمة السورية». وهي الأموال الأكثر التي طلبت الأمم المتحدة رصدها للأزمات الإنسانية، حيث طلبت تخصيص 6,5 مليار دولار لإغاثة ومساعدة اللاجئين والنازحين السوريين في الداخل والخارج وخاصة في دول الجوار. ولذلك يتوقع أن تستحوذ أزمة سوريا ومعاناة شعبها على نصف مخصصات الأمم المتحدة لعام 2014 حيث ارتفع عدد اللاجئين السوريين في الخارج من نصف مليون العام الماضي إلى ما يقارب 3 ملايين اليوم. ويُتوقع بغياب حل سياسي في مؤتمر جنيف 2 الوشيك أن تزداد المعاناة وأعداد اللاجئين والمهجرين. أما في الداخل السوري فالصورة لا تقل مأساوية بارتفاع عدد المهجرين إلى 9 ملايين نسمة. ما يعني أن حوالي نصف الشعب السوري أصبح بين لاجئ ومهجر ونازح... وهذا يجعل الأزمة السورية هي الأكثر إيلاماً وقسوة في التاريخ المعاصر... ولم يحدث في التاريخ أن يجد نصف شعب دولة واحدة نفسه مهجّراً في مدة سنوات قليلة ويصبح بذلك لاجئاً! ولهذا كانت المبادرة والدعوة من أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد في الأسبوع الماضي لاستضافة الكويت وللعام الثاني على التوالي «المؤتمر الدولي للمانحين لدعم الوضع الإنساني في سوريا» الذي انعقد بمشاركة أكثر من 70 دولة، وعشرات المنظمات الدولية والإقليمية لحشد الدعم والرأي العام العربي والدولي لإغاثة الشعب السوري، وكذلك دعم ومساندة الدول المستضيفة لملايين اللاجئين السوريين وخاصة الأردن ولبنان والعراق وتركيا. وقد أطلق سمو أمير دولة الكويت في مؤتمر المانحين الثاني نداء استغاثة قائلاً للعرب والعالم أنقذوا سوريا، مع تقديم دعم مالي سخي هو الأكبر بين الدول المشاركة بـ500 مليون دولار تضاف إلى 430 مليون دولار سابقاً منذ تفجر الأزمة السورية. وكانت دولة الكويت استضافت مؤتمر المانحين الدولي الأول في يناير 2013 وقدمت تبرعاً بـ300 مليون دولار، كما قدمت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة تبرعاً مماثلاً بـ300 مليون دولار لكل منهما، ما ساهم في نجاح مؤتمر المانحين الأول حيث جمع المبلغ المطلوب 1,5 مليار دولار.. بينما نجح مؤتمر المانحين الثاني وبخطوة غير مسبوقة في جمع 2,4 مليار دولار معظمها من الدول الخليجية والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا ودول أوروبية واليابان. وهكذا تستمر دول الخليج في لعب الدور الأهم في تضميد جراح وتقديم الدعم الإنساني للشعب السوري، ما دفع بأمين عام الأمم المتحدة «بان كي مون» الذي ترأس مؤتمر المانحين الثاني لوصف أمير دولة الكويت بـ«أمير الإنسانية». وهذا اعتراف ليس للكويت فقط ولكنه اعتراف بالفزعة الخليجية التي كان لها الدور الأكبر في حشد الرأي العام، وتقديم الدعم لرفع المعاناة عن الشعب السوري. وكان ملفتاً في كلمة أمير دولة الكويت في افتتاح مؤتمر المانحين 2 في الكويت طلبه من المجتمع الدولي تحمل «مسؤوليته التاريخية والأخلاقية والإنسانية والقانونية للوصول إلى حل يحقن دماء شعب بأكمله، ويحفظ كيان بلد لنصون فيه الأمن والسلام الدوليين». كما دعا سموه عشية انعقاد مؤتمر جنيف 2 مجلس الأمن «ولاسيما الدول دائمة العضوية فيه إلى ترك خلافاتها واختلافاتها جانباً والتركيز على وضع حل لهذه الكارثة التي طال استعارها... ليعيدوا لهذا المحفل الدولي مصداقيته وقدرته على الاضطلاع بمسؤولياته التاريخية..». واليوم قبيل انعقاد مؤتمر جنيف 2 يستمر الجدل حول ما هو مطلوب وما هو متوقع منه.. ويتوقع أن يشارك فيه الائتلاف الوطني بعد رفضه بدايةً المشاركة. والمعضلة في جنيف 2 هي الغموض والتضارب في هدفه. فكل طرف يقرأ فيه رغباته وطموحه! حيث تقاطع الجماعات الإسلامية المتشددة هذا المؤتمر. كما أدى إلى انشقاقات واستقالات داخل الائتلاف الوطني السوري وهو أكبر فصيل معارض، حيث حثه وزير الخارجية الأميركي كيري على المشاركة في جنيف 2 ملوحاً بأنه لا مستقبل للأسد في سوريا، ولن يخدع الأسد العالم! إن كل طرف ضالع في الأزمة السورية له وجهة نظره، ويقرأ جنيف 2 بشكل مختلف عن الآخر. فالنظام السوري يقول إنه لن يناقش مستقبل الأسد في المؤتمر. بل يروج أنه يحضر لطلب الدعم في أولويته «محاربة الإرهاب والتطرف والقاعدة ودولة العراق والشام الإسلامية- داعش»! وهو ما بات رائجاً ومشتركاً بين الأسد في سوريا والمالكي في العراق. بينما المعارضة السورية المشتتة، ومن سيمثلها في جنيف، تريد اقتلاع النظام السوري. أما الأميركيون على لسان أوباما وكيري، ومعهم بريطانيا وفرنسا، فيقدمون جنيف 2 على أنه لرسم خريطة طريق لمستقبل سوريا بدون الأسد، ولن تكون في مستقبل البلاد أي شخصية من النظام والمعارضة غير مرغوب فيها! وكذلك تضغط وتهدد أميركا مع بريطانيا بوقف تزويد المعارضة السورية بالمعدات غير المميتة إذا لم تحضر جنيف 2. أما موسكو وطهران فتطالبان بمشاركة إيران بعضوية كاملة، وبدون فرض شروط مسبقة على نظام الأسد! وبين كويت 2 ببعده الإنساني والأخلاقي وجمع المليارات لتخفيف المعاناة الإنسانية عن السوريين.. وجنيف 2، بخلافاته وانقساماته وتشتت أهدافه وأجنداته وتسييس الأزمة السورية وتوقع فشله، لا يبدو أن حلاً عاجلاً ينهي مأساة السوريين في الأفق، بل قد تتفاقم وتتعقد الأزمة أكثر.. ويبقى الشعب السوري الذي تحول إلى شعب نازح ومهجر ولاجئ ومشرد وجائع ومحاصر هو من يسدد الثمن على أمل ألا نرى الكويت 3 وجنيف 3 بعد عام!