يجانب الصواب من يعتقد أننا فتحنا أبواب بيوتنا وقلنا تفضّل بالدخول يا «بابا نويل»، أو غرسنا بأيدينا «شجرة الكريسماس» في مدننا، أو عرضنا القلوب الحمراء في «الفالانتاين» على أرفف محالنا بدافع الكسب والتجارة، بل استطاعت الحضارة الغربية التي نعيش على موائدها؛ تمرير ثقافتها وقيمها ورموزها إلينا وإلى غيرنا في أنحاء المعمورة، إذ لا يمكن أن تدخل مطعماً لتأكل فيه من دون أن تعلق رائحة الطهو والشواء بثيابك. فالحضارة مثل باقة البرامج أو باقة السفر، تأخذها كلها أو تتركها كلها، وهي «حين ترد تأتي بحسناتها وسيئاتها، وليس في الإمكان وضع رقيب على الحدود يختار لنا منها الحسن ويطرد السيئ»، كما يصفها عالم الاجتماع علي الوردي. فبينما نحن لا نتصوّر حياة من دون إنترنت، فمن البلاهة تصوّر إمكانية أخذ كل ما هو إيجابي من الإنترنت، من دون تحمل سلبياتها. وما دام الحال كذلك، أليس من الحكمة أن نوظّف مناسباتنا الدينية لتقليل خسائرنا الحضارية، من خلال الاحتفال بها وتقريبها إلى أطفالنا وتحبيبهم بها، وهي الاحتفالات التي يُنظر إليها دائماً بنظرة فقهية بحتة، بمعنى جواز إقامتها أو عدم جواز ذلك، وبينما نحن منهمكين في هذا الجدال يدخل «بابا نويل» بثيابه الغرائبية ووجهه البشوش إلى بيوتنا من الأبواب وليس من المداخن؟! ويكرر الكارهون للاحتفال بالمناسبات الدينية الكلام عن كون الاحتفال بدعة محدثة في الدين. وأعتقد أنه لا يقول بهذا الرأي إلا من يرتدي نظارة فقهية طوال الوقت، ولو نحّاها عن وجهه لأبصر الهوية التي تضيع، والحضارة التي تذوب، ولانقطع في ذهنه حبل الربط بين الاحتفال وبين تصوّر أنه يقام بقصد القربة إلى الله تعالى، (وهو تصوّر معتبر في نظر جمهرة من العلماء عموماً)، ولتعمّق في الأمر ورآه من وجهة أخرى، هي أن الاحتفال مناسبة لتقريب الأطفال والناشئة من رموز حضارتهم، وتحبيبهم إلى مناسباتهم الدينية. وبطبيعة الحال، الطفولة عمر البهجة والغناء واللعب والانبهار بالألوان والأشكال والمجسمات والغرائبيات، ويصعب شد الطفل بغير تلك الوسائل، فأي كارثة ستحل بالأمة لو استمع الطفل لضرب الدفوف في رأس السنة الهجرية؟! أو رأى القناديل المضيئة تتدلى في رمضان؟! أو شاهد مجسّماً لخروف أبيض في ذي الحجة؟! أو سمع منشداً يشدو بأعذب الكلام في مدح حبيب الرحمن في ربيع الأول؟! أو أدى مع أقرانه الأهازيج في شعبان، وهم يحملون أكياس الحلويات؟! ومثلما لا يؤثر اكتشاف الطفل الغربي حين يكبر أن «بابا نويل» شخصية خرافية وأنه لا يهبط من المداخن ولا هم يحزنون، فمن غير المتصوّر أن تؤثر احتفالاتنا بعقيدة أطفالنا، فيعتقدون مثلاً أن الاحتفال من ضرورات الإسلام، إذ سيدركون بعد حين أنه لم يكن إلا طريقة للمحافظة على هويته، وأسلوباً لشدّه إلى ما تبقى من حضارته. وليت هؤلاء الرافضون للاحتفال بالمناسبات الدينية حكّوا رؤوسهم قليلا وابتكروا طريقة نحافظ بها على هوية أطفالنا، طريقة تشدّ الطفل وليس البالغ الراشد الذي تمسك الفتاوى بخناقه، وتسيل المواعظ الدموع من عينيه، بدلاً من الجلوس وتوزيع الاتهامات، بينما يرون بأعينهم «بابا نويل» في ألعاب «الآيباد»، وهو يداعب صغارهم، وقلوب «فالانتاين» تحلّق فوق رؤوس صغيراتهم. ما دمنا لا نزرع ما نأكل، ولا ننسج ما نلبس، ولا نخترع ما نستعمل، ولا نصنع ما نذود به عن أوطاننا، فسنبقى نأكل من موائد الآخرين، الجيد من أطباقها والسيئ، وليس من الصواب ألا نستعمل ما بحوزتنا من مضادات تقلل خسائرنا المتزايدة في ميدان الهوية والحضارة.