تُعد زيارة الأربعين (20 صفر) من المستحدثات، قياساً بقِدم إحياء يوم عاشوراء، وعلى وجه الخصوص المواكب السائرة على الأقدام من أقاصي العراق حتى كربلاء. نعم كان هناك أشخاص يسيرون، قبل السنوات العشر الماضيات، ولا يتعدون المئات، وهم في حلٍّ من مسؤولية العمل في دوائر الدولة. ربما اشتهرت المناسبة دولياً باشتهار أخبار التفجيرات والمقاتل التي تُصيد المواكب، إنها مناسبة نموذجية للإرهابيين، فكلما عظم الاجتماع عظم قطف الرؤوس، وفي هذه الظروف لو كانت هناك دولة حريصة ومرجعيات أحرص لحذرت هؤلاء حفظاً على أرواحهم، ففي التاريخ تعطل الحج، أكثر من مرة، بسب وجود ثورات وسطوة قطاع الطُّرق. لسنا ضد حرية الطُقوس، لكن ماذا عن الدولة ومؤسساتها، عن البنوك والمستشفيات والمدارس والجامعات؟ ماذا عن المستوى الدراسي؟ فعلى رداءته وانحطاطه يشكل بارقة أمل. أيكفي أن يكون لديك نفط تصرف ريعه على المواكب السائرة لأسابيع؟ لا زراعة ولا صناعة! بماذا يُفكر هؤلاء؟ لا أعني النَّاس، فهم «على دين ملوكهم»، إن أظهرت الدولة جداً بالعمل جدوا وتفانوا، وإن أظهر ت جهلاً جهلوا وغفوا. تصرف أموال ضخمة على المواكب سنوياً، فأولئك الذين صاروا حكاماً سجلوا هذه المظاهر في الدستور، وليس الشعائر لكل دين ومذهب على العموم. جاء في المادة (40 أ): «ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية»، مع الاختلاف حول مفردة الشعائر، فهي في القرآن معروفة إلى أين، لا أخص سيراً على الأقدام ولا تطبيرَ الهامات. ربما كان الإصرار على تسجيلها في الدستور ينم عن قلق. فعلى ما يبدو لم يكن الأمر كذلك، إنما للتصرف بها والكسب من ريعها، بجعلها مطلقة فوق أي اعتبار ومنها الدولة، ولكي تكون هذه الجموع طوعاً للسياسي، سيفاً بيده ضد خصمه، فقبل أيام ثار المتاجرون بالحسين ضد رئيس جامعة أراد استقلال المؤسسة العلمية عمَّا يمارس في الشارع، فقالوا: «أنزل راية الحسين»! ما هو أفظع، ولم يخطر على بال عاقل، أن يتحول رئيس وزراء العراق إلى طالب ثأر. ومعلوم عندما نقول العراق أننا نعني الملل والنِّحل الأهوار والسُّهول والبطاح والجبال. فلا نُقلل من شأن المختار الثَّقفي (قُتل 67 هـ)، في نفوس الذين يعتقدون أنه أخذ ثأر الحسين (قُتل 61 هـ) بلا غرض سياسي، إلا أن الرجل صار «ماركةً» للثأر، فكيف لرئيس وزراء بلد مثل العراق أن يقبله عنواناً لموكبه؟ ولماذا يكون لرئيس الوزراء موكب من الأساس؟ قبل ذلك رفعت لافتات في مظاهرات مؤيدة، وهي الوحيدة التي لم تُضايق، وفتحت لها الطرق، وأفرغت لها الساحات... لافتات تحمل صورته مع نقش «مختار العصر»! غير أن الأسوأ من هذا أن يؤسس موكب حسيني بهذا الاسم، ولنقرأ لافتته: «برعاية ودعم دولة رئيس الوزراء، وبإشراف مباشر من قِبل السكرتير الشخصي لدولة رئيس الوزراء الحاج حسين أحمد المالكي أبو رحاب، موكب مختار العصر لخدمة زوار الإمام الحسين» (المصدر صورة حية). فإذا كان رئيس الوزراء وسكرتيره الشخصي طالبي ثأر، فإلى أين تدور الأرض ببلد ميزانيته القادمة 150 مليار دولار، ويُقدر ما صُرف عبثاً حتى هذه اللحظة، منذ عام 2003، بنحو تريليون دولار، يتصرف بها شخص يرفع الثأر شعاراً له؟ كتبتُ في أول ولاية المالكي عدة مقالات، وصفته فيها بابن الفرات (وزير المقتدر الذي خفف على بغداد بالمصالحة) عندما تحدث عن جد في المصالحة، لكنها لحظات وينزوي المالكي في كهفه الحزبي. في أحوال مناسبة «الأربعين» لم تعد أسرة الحسين إلى كربلاء، ولا عادت رؤوس القتلى، وليكن ما أُختلق طقساً يمارس، فأي الأديان في الدُّنيا خلت من الاختراعات الطقوسية، لكن أن تحولها الحكومة نفسها إلى مناسبة لتغذية العقول بعاطفة الثأر، كدعاية انتخابية، فهذا ما يدخل اليأس والامتعاض في النَّفس! إذا قُلت مختلقة فليس كلامي إنما هو كلام مَن هو أعلم بمثل هذه الأُمور وأقرب إلى الحسين؛ آية الله مرتضى مطهري (اغتيل 1979)، أحد أقطاب الثورة الإسلامية في إيران. قال: «النموذج الآخر للتحريف هو يوم الأربعين (أربعين الحسين)، عندما يحين موعد الأربعين نسمع جميعاً بالتعزية الخاصة بيوم الأربعين، والناس جميعاً يعتقدون بأن الأسرى من آل بيت الرسول قد ذهبوا في ذلك اليوم من الشام إلى كربلاء. إن الطريق من الشام إلى المدينة لا يمر عبر كربلاء... وهذه القصة لا تذكرها الكتب المعتبرة إطلاقاً، كما أنه ليس هناك دليل عقلي على حصولها» (مطهري، الملحمة الحسينية، ص 22). ويعلق مطهري قائلا: «هل من الممكن إقناع الناس بعدم حصول مثل هذه الواقعة التي يسمعونها كل عام على المنابر، وفي المجالس والتعازي الحسينية؟» (المصدر نفسه). نعم يا شيخنا، دع الناس لا يصدقون ذلك، وليحتفلوا به، شريطة ألا تستغل السلطة والسياسة ذلك التلفيق مثلما هو الموكب الحكومي «مختار العصر»! يكتب هبة الدِّين الشَّهرستاني (ت 1967) في خضوع العلماء للعوام، وهو يناقش هذه الظاهرة ويضع لها احتمالات، كتبها في عام 1910 ونحن الآن في 2013، وكأن الزَّمن ثبت «بأمراس كتِّان إلى صُمِّ جَندَلِ». قال: «ظهر كثير من الجهال أو طلاب الدنيا في ملابس العلماء، ذلك يطول شرحه، فصار العالم والفقيه يتكلم من خوفه بين الطلاب غير ما يتلطف به العوام وبالعكس، ويختار في كتبه الاستدلالية غير ما يفتي به في الرسائل العلمية، ويستعمل في بيان الفتوى فنوناً من السياسة والمجاملة خوفاً من هياج العوام» (مجلة العِلم، النَّجف 1910 محاربة البدع والعادات السيئة). ونقول للشهرستاني: بعد 100 عام من تحذيرك صار «طلاب الدنيا في ملابس العلماء» سُلطةً! الأمر بيدكم الآن فأعملوا شيئاً لإنقاذ الطائفة مما هي فيه من فاجعات، إذا كنتم غيارى عليها، قلدوا إيران بهذه القضية، فليس فيها مواكب تجتاح المدن وتعطل الدولة، ولا شأن للجامعات والمدارس بهذه الطقوس، ومنذ أواسط التسعينيات منعت رسمياً تلك المهازل! شيدوا دولة كدولتها، كونوا مخلصين لبلادكم كإخلاص الإيرانيين لبلادهم! أقول: ما هذه حرية، وإن قُيدت في الدستور، فإنها حرية رعناء، والكلمة لسليل النَّجف محمد صالح بحر العلوم (ت 1992): «أنا لا أريد لأمتي حريةً/ في ما تدين به وهي رعناء» (بعض العقائد 1934). وهل هناك رعونة أكثر من جعل الثأر شعاراً ودثاراً؟!