بكل المعايير، يتأكد مرة أخرى أن التقارير التي تفيد بتراجع القوة الأميركية لا تزال «سابقة لأوانها». فالاقتصاد الأميركي يتخذ اتجاهاً صعودياً بشكل كبير، ولا تزال الولايات المتحدة من أكثر دول العالم أمناً وجذباً للاستثمارات، كما أن ثروة الغاز الصخري تقود واشنطن لتكون من عمالقة الطاقة في المستقبل. وعلاوة على ذلك، يبدو أن الورقة الخضراء، التي كانت توشك على الانهيار، مقدر لها أن تبقى عملة الاحتياط العالمي لبعض الوقت، ولا تزال القوة العسكرية الأميركية، حتى في ظل خفض الميزانية الحالي، لا تضاهى كماً وكيفاً. وفي غضون ذلك، أخفق «نهوض بقية دول العالم»، الذي دأب المتشائمون بشأن القوة الأميركية على تكراره خلال الأعوام القليلة الماضية، في التجسد كواقع كما كان متوقعاً. ورغم جُلّ المشكلات الأميركية في الداخل، من الأزمة المالية إلى الجمود السياسي والاستقطاب الحزبي، فإن القوى الكبرى الأخرى مثل الصين والهند وروسيا والاتحاد الأوروبي، لديها مشكلاتها المتجذرة، والتي ينذر بعضها بالتفاقم الشديد. وبشكل عام، فإن العودة إلى عالم متعدد الأقطاب تتقارب فيه «القوى الكبرى»، قد تأجلت لبضعة عقود أخرى على أقل تقدير. وما لم يحدث تغيير غير متوقع، فإن النظام العالمي سيظل مكوناً من «قوة عظمى» حولها «قوى كبرى»، أو ما سماه هانتجتون «القطب الأوحد». ورغم ذلك، فإنه بالمقاييس العادية للقوة النسبية، ما لم تتغير الأمور مثلما يتوقع البعض بشكل كبير، فلا شك أن النظام الدولي ينحدر إلى فترة من عدم اليقين. وفي غضون الأعوام القليلة الماضية، بات كثير من الأميركيين يتساءلون عن طبيعة ومدى تدخل دولتهم في شؤون العالم، ولم يعد الأمر فقط يتعلق بالكساد الكبير أو الاستياء من التجربة الأميركية في العراق وأفغانستان هو ما دفعهم لعدم الرضاء بشأن ما اعتادوا أن يطلقوا عليه «قيادة العالم». وإنما أصبحت الأسباب القديمة للتدخل بشكل عميق في شؤون العالم، والتي كانت قائمة في أعقاب الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى الحرب الباردة، طي النسيان أو مرفوضة تماماً من قبل الأميركيين الذين يتساءلون عن السبب الذي يدعو الولايات المتحدة إلى لعب هذا الدور الذي يفوق حجمها على الساحة العالمية. ولعل السياسة الخارجية للرئيس أوباما عكست وشجعت تلك الرغبة في الانكماش وتقليص التدخل في الشؤون العالمية. وبصورة منصفة، بات توضيح السبب للأميركيين وراء ضرورة استمرار الولايات المتحدة في لعب دور القوة التي «لا غنى عنها» معقداً أكثر من ذي قبل. وجعل وجود النازيين والسوفييت الأمور أكثر سهولة، إذ لم يحتج الرؤساء الأميركيون لتقديم تلك الحجج والأسباب التي يجب طرحها الآن لتأكيد أن المهمة الأميركية منذ عام 1945 أضحت تشكيل نظاماً عالمياً حراً والدفاع عنه والحيلولة دون حدوث فوضى عالمية، وليس مجرد مواجهة التهديدات التي تطرأ والعودة إلى الوطن. ولعل الرئيس الأميركي نفسه لا يفهم ذلك. ويتسآل آخرون في أنحاء العالم قائلين: «هل لابد من حكم وتنظيم الشؤون العالمية؟ وما هي الأدوار التي تقوم بها المؤسسات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة؟ وهل ينبغي أن ترتبط القوى الكبرى ببعضها؟ وما الدور الذي ينبغي أن تلعبه الولايات المتحدة ؟». لكن ما من إجابات سهلة لهذه الأسئلة، لاسيما أن هناك ازدواجية تجاه الولايات المتحدة في العالم، فالبعض يود لو يرى زوال نفوذها، وآخرون يريدون تدخلها بصورة أكبر، ورغم ذلك يعرب آخرون عن كلتا الرغبتين في آن واحد. غير أنه أياً كان ما يعتقده المرء بشأن النظام العالمي الذي شكلته القوة العظمى الأميركية ومن حولها، لا يزال من غير الواضح أي نظام يمكن أن يخلفها. وإن لم تكن الولايات المتحدة، فمن إذن؟ بالنسبة لكثيرين، لا تفي الأمم المتحدة بالوعود التي قطعتها، وليس الرفض السعودي الأخير لشغل معقد في مجلس الأمن سوى إشارة واحدة على حالة الاستياء إزاء تلك المنظمة التي يراها كثيرون معاقة على نحو لا يرجى برؤه، خاصة مع وجود أعضاء محصنين بالفيتو. وتناضل الآن مؤسسات، مثل الاتحاد الأوروبي، بدت قبل عقد مضى تمثل سبيلاً لنوع جديد ومختلف من النظام العالمي، للحفاظ على نفسها، بينما تظهر جهود جديدة لتدشين مؤسسات مماثلة في آسيا، غيرةً ومنافسةً للقوى الكبرى. ويبدو أن أي أمل لإنشاء تكتل من القوى الكبرى، كنسخة معدلة من «الوفاق الأوروبي» تلائم القرن الحادي والعشرين، أمر بعيد المنال، حتى إذا كان مرغوباً. وكما هو الحال إزاء التكهن بـ«التراجع الأميركي»، فإن التحذيرات من «فوضى عالمية قادمة» ثبت أنها «سابقة لأوانها» تماماً. لكن في ضوء إعادة الأميركيين التفكير في الدور الأميركي، ومع عدم وجود دولة أو مجموعة من الدول أو المؤسسات، راغبة أو قادرة على تولي مكانها، فإن حدوث اضطراب عالمي يبدو أمراً ممكناً أكثر من أي وقت مضى منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وربما يكمن التحدي في تشكيل نظام دولي قادر على عكس واقع «القطب الأوحد» المتواصل، شريطة أن يستوعب بدرجة ما القلق العالمي بشأن القوة الأميركية وقلق الأميركيين إزاء دورهم العالمي. وما من سبب تاريخي يدعو للتشاؤم، فالنظام العالمي نادراً ما يتغير بوسائل التحول السلسة، وعادة ما يكون التغيير نتيجة ثورة تصاحبها عوامل مساعدة. ـ ـ ـ ـ ـ روبرت كاجان كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع «خدمة واشنطن بوست وبلومبيرج»