سارعت الإدارة الأميركية إلى محاولة استيعاب الغضب السعودي، فأرسلت وزير خارجيتها إلى مصر ثم إلى المملكة العربية السعودية. في مصر قال جون كيري كلاماً يوحي وكأن فيه تفهماً لما تقوم به الحكومة المصرية في سياق التزامها تنفيذ خريطة الطريق التي أقرت بعد عزل الرئيس محمد مرسي. ويفترض أن يطمئن هذا الموقف قادة المملكة لأن أحد مواضيع الخلاف مع الإدارة وأحد أسباب الموقف السعودي المنتقد للسياسة الأميركية هو انحيازها إلى "الإخوان" المسلمين علناً، وعدم احترام الإرادة الشعبية التي رفضت سياساتهم وأدت إلى إطاحة حكمهم. بعد القاهرة كانت المحطة الأهم الرياض. التقى "كيري" خادم الحرمين الشريفين. وأكد الحرص على العلاقة مع المملكة، والتشاور مع الحلفاء فيما خصّ قضايا المنطقة لاسيما القضية الإيرانية المتمثلة بالسلاح النووي بشكل خاص، وبتمدّد إيران في المنطقة، و"تسّرع" الإدارة الأميركية في الانفتاح عليها، وكذلك القضية السورية وتلكؤ أميركا في دعم معارضة نظام الأسد، وحصر الموقف منه في الاتفاق مع الروس، ثم في قرار مجلس الأمن الأخير المتعلّق بالسلاح الكيماوي دون أي إشارة إلى مسؤوليته في استخدامه، وإلى استبعاد دوره في الحل الآتي وفي قيادة سوريا مستقبلاً! في النهاية قال "كيري": "لا دور للأسد مستقبلاً! متفقون مع المملكة. الخلاف تكتيكي حول الأساليب. ونحن نشارك المملكة إحباطها في مجلس الأمن"! منطق الأمور. حتمية التاريخ تقول لا يمكن للأسد أن يستمر من دون منة من كيري أو غيره، لا يمكن بأي حال من الأحوال ولو طال الزمن أن يبقى النظام في سوريا بعد حمّام الدم المفتوح، وما تسبّب به الخيار الأمني في المعالجة من خراب ودمار وأحقاد في النفوس لا يستطيع أحد تحملها. لكن السؤال المطروح من الأساس: متى وكيف وبأي ثمن سيرحل النظام؟ هنا الموقف من السياسة الأميركية خصوصاً والغربية عموماً من قبل المعارضة أو المعارضات السورية وداعميها في المنطقة على مختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم وحساباتهم. فلو كان الموقف واضحاً حاسماً، لكان التغيير في نظر هؤلاء قد تمّ ومن دون هذه الكلفة الاستثنائية، وهذا الثمن الكبير الخيالي الذي يدفعه الشعب السوري وسوريا عموماً. ولأن الأميركيين كانوا يقولون كلاماً عالياً، ويعتبرون أن الأسد فقد شرعيته، ولكنهم كانوا يمارسون سياسة مختلفة، آخذين بعين الاعتبار مصالحهم ومصالح إسرائيل في المنطقة دون غيرها من الأطراف، لذلك كان الموقف منها سلبياً ولا يزال. إذ وبالرغم من الكلام الذي قاله كيري، فإن كثيرين في المملكة وخارجها لا يزالون على حذرهم وينتظرون أفعالاً من الأميركيين قد لا تأتي. فالإدارة الأميركية لا تريد تدخلاً، لا تريد حرباً،. وتريد اتفاقاً مع إيران والوقائع حتى زيارة كيري إلى المملكة كانت تؤكد عكس ما قاله، فالأميركيون بدؤوا انفتاحهم على إيران منذ أشهر باعتراف مسؤولين كبار في إدارة أوباما، وقرروا رفع العقوبات تدريجياً ولم يتشاوروا مع حلفائهم العرب. كانت إسرائيل في صورة ما يجري وكانت ولا تزال ترفض، وهم يحاولون إرضاءها، ولن يكون ثمن إلا لها في النهاية. ومهما صرح الأميركيون وناقشوا مع العرب فإنهم لن يخرجوا عن ثابتين: ثابت اتفاقهم مع الروس فيما يخص سوريا. وبالتالي: لا حرب ولا حل عسكرياً للصراع، ولا تغيير للأسد إلا عند حصول الاتفاق بين هذين الشريكين الأساسيين. والثابت الثاني هو استكمال المسار الذي بدؤوه مع إيران والمحافظة على ما أنجز حتى الآن، واستمرار التفاوض للوصول إلى اتفاق وقد كان العالم ينتظر هذا الاتفاق خلال الأيام الماضية، لكن الضغط الإسرائيلي الكبير أدى إلى تعثره وتأخره إلا أن الأمور لم تخرج، ولن تخرج عن مسارها في النهاية، سيكون هناك اتفاق. سترضى إسرائيل. قد يرضى العرب شكلاً لكنهم لن يأخذوا شيئاً ذا قيمة للأسف!! هذه هي أميركا. هذه هي إسرائيل، وهذا هو الواقع العربي. في الحديث عن مشاركة كيري المملكة إحباطها من مجلس الأمن، المملكة تحدثت عن سببين: موقف مجلس الأمن من سوريا، وهذا يمكن حصره بـ"الفيتو" الروسي. وبالتالي يمكن لكيري أن يقول إنه يشارك المملكة في الموقف. لكن السبب الثاني هو ازدواجية المعايير في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وهذا يحصر بأميركا التي تحمي إسرائيل بـ"الفيتو" والسلاح والدعم والتغطية الكاملة، فكيف سيتشارك "كيري" مع المملكة في هذا الإحباط ودولته هي المسؤولة عنه؟ في كل الحالات، بعد زيارته، ظهر ارتباك في صفوف المعارضات السورية. الائتلاف الوطني أصدر قادته مواقف متباينة، بين تصعيد ورفض وموافقة مشروطة. وآخر الشروط الإصرار على فتح ممرات إنسانية لإيصال المساعدات الإنسانية إلى مناطق المعارضة. كانت الشروط أكبر وأعلى من ذلك بكثير ويأتي هذا الشرط اليوم في وقت يفتح فيه النظام مدعوماً من إيران و"حزب الله" وقوات عراقية ممرات إلى محاور كان قد خسرها ومدناً وبلدات كانت تحت سيطرة المعارضة بالكامل. كذلك تستمر فصائل معارضة في الاقتتال والتنافس على إقامة دويلاتها وأنظمتها وفرض قوانينها وشرائعها فيها. فالسيد أيمن الظواهري دعا علناً إلى إلغاء الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام لمصلحة جبهة النصرة. وهذه وغيرها من الدعوات والممارسات والمعارك الدائرة بين المعارضين تفيد النظام، وتمنحه فرصة تحقيق الإنجازات الميدانية وفتح الممرات والمناطق، وتزيده إصراراً على محاولة فرض شروطه في التفاوض، أو في التعاطي مع المبادرات التي تطرح. كذلك فقد وردت معلومات عن دعوة معارضين في الخارج إلى جنيف 2 من أمثال رفعت الأسد عم الرئيس السوري الحالي، وهذا بحد ذاته نكسة لمعارضات الداخل، التي جنح بعضها في اتجاه أعمال لا تمت إلى التغيير والحرية والديمقراطية بصلة، وجنح البعض الآخر في اتجاه رفض المشاركة في جنيف 2 دون طرح بديل ودون أي أفق سياسي ومبادرة سياسية يمكن الدفاع عنها! كل هذه التطورات، أدت إلى تعثر جنيف 2 السوري، وتقدم جنيف الإيراني المفتوح. وثمة ربط موضوعي سياسي ميداني بين الاثنين، وستؤدي بالتأكيد إلى استمرار الحرب والخراب والدمار في سوريا، وتوسيع دائرة المواجهات والاستهدافات المذهبية والطائفية.