في تسعينيات القرن العشرين، تناولتُ في عمود كتبته إحدى الطرق التي اعتمدتها صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية للاحتفال بعيدها العشرين، إذ عمدت إلى طباعة ملحق داخلي، شمل مقالات كُتبَت قبل عقدين من الزمن. وفي لحظة سهو، خلت أن المقالات المكتوبة قبل عشرين عاماً حديثة، مع أنني سأدافع عن نفسي بالقول إنّ معظم الأخبار الصادرة قبل عشرين عاماً كانت تشبه نسبياً ما توقعت قراءته في أحد الإصدارات الجديدة. وأنا لا ألوم الصحيفة على ذلك، إنّما إيطاليا، حيث إنّ الأمور كلّما تبدّلت، بقيت على حالها. وفي ذلك العمود الصادر في التسعينيات، اشتكيت من وضع راهن غريب، ففي الشؤون القانونية، كانت كفّة بعض الصحف تميل نحو تأييد المتّهمين المرموقين، لكن بدلاً من أن تحاول إثبات براءة هؤلاء المتهمين، كانت تتساءل حول مهارة القضاة ومصداقيتهم، وتنشر مقالات فيها التباس وتلميحات، وحتى اتّهامات متعمّدة. ومن وجهة نظرية، يُعتبَر الإثبات خلال محاكمة أن التهمة متحيّزة أو غير منصفة، خير مثال على الممارسات الديمقراطية. أمّا في مجتمع لا يقتصر فيه نزع الشرعية على الاتهام ويشمل أيضاً التعريض المنهجي بالقاضي، فقد يعود السبب على الأرجح إلى وجود خلل، فإما أن العدالة لا تعمل، أو أنّ فِرق الدفاع لا تعمل. وفي جميع الأحوال، فهذا ما نراه في إيطاليا منذ بعض الوقت. ولا تقضي أول خطوة يقوم بها المتَهم بالتشكيك في الأدلة الموجهة ضده، بل بالإثبات للعموم بأن المتّهِم ليس بعيداً عن الشبهات. وفي حال نجح المتَهم في مسعاه هذا، أصبح مجرى المحاكمة الفعلي ثانوياً. ففي النهاية، يعتبر الرأي العام حاسماً في المحاكمات المصوّرة عبر شاشات التلفزيون. والملفت أن العموم لا يؤمن كثيراً بسلطات التحقيق، وغالباً ما يملك نفوذاً، يخوّله إقناع لجنة التحكيم بأن الوقوف إلى جانب السلطات مستهجَن. وبالتالي، ما عادت المحاكمةُ مناقشةً بين طرفين يقدّمان أدلّة وأدلة مضادة، بل أصبحت مبارزة إعلامية، ويمكن للمتّهمين فيها إثارة التساؤلات حول حقّ المدعى العام بتوجيه الاتهامات، وحول حق القاضي بإصدار القرارات. وإن أمكنك أن تثبت أن الطرف الذي يتّهمك ارتكب الزنا، أو ارتكب خطايا أو جرائم في ماضيه، فسيكون فوزك محتّماً. وبالنسبة للقاضي، يبدو أنّه ليس من الضروري أن تثبت حتى بصراحة أنّه ارتكب جريمة، إذ أنّ التلميحات أداة تتحلى بنفوذ كبير. ويكفي تصوير قاضٍ وهو يرمي بقايا سيجارة على الأرض، أو لفت النظر إلى جرابيه الأزرقين، كدليل على جهله بعالم الأزياء... وسبق أن حصلت حوادث من هذا النوع. ويؤدي ذلك إلى تغيّر في موازين القوى، ليصبح القاضي متهماً، بالاستناد إلى تلميحات بأنه غريب الأطوار أو غير جدير بالثقة، وبالتالي تجعله أخطاءه غير مناسب لتولّي منصبه. وبالنظر إلى أن هذا النهج بقي مستمراً لسنوات طويلة، يشير ظاهر الأمور إلى فعاليته. ومن شأنه أيضاً تحفيز أسوأ الغرائز لدى الناس. فمثلاً إن حصل أحدهم على غرامة لتوقّفه في مكان ممنوع، قد يخطر له أن يتّهم الشرطي بالتصرف بسوء نية، وبالغيرة من كل من يملك سيارة من طراز فاخر. والآن، بات موضوع أي تحقيق يذكر بشخصية «جوزف ك» في رواية «المحاكمة» من تأليف فرانس كافكا، حيث يكون البطل بريئاً، إنما في مواجهة نظام عدالة مصاب بجنون العظمة إلى حد يجعل اختراقه مستحيلًا.