خريطة الشرق الأوسط الحديث أصبحت في حال يرثى لها. وحرب سوريا المدمرة تمثل منعطفاً مهماً، لكن قوى الطرد المركزية- المدعومة بنتائج غير مقصودة لـ«الربيع العربي»، كالمعتقدات والعرقيات المتنافسة تمزق أيضاً إقليماً وضع حدوده القوى الاستعمارية الأوروبية قبل قرن من الزمن. والموقع المميز لسوريا يجعلها مركزاً استراتيجياً للشرق الأوسط. لكنه بلد معقد وثري بتنوعه الديني والعرقي ومن ثم فهو هش. والآن بعد 30 شهراً من نزيف الدماء تحول التنوع إلى أداة قاتلة للبلاد والعباد. فقد تداعت سوريا إلى ثلاث مناطق لكل واحدة منها علم وقوات أمن خاصة بها. فهناك مستقبل جديد يتشكل: فهناك دويلة على امتداد ممر من الجنوب إلى دمشق وحمص وحماة ثم إلى الشمال على ساحل المتوسط، ويسيطر عليه العلويون الشيعة الذين تنتمي إليهم أسرة الأسد. وفي الشمال يوجد كردستان صغيرة وهي مستقلة إلى حد كبير منذ منتصف عام 2012. وأكبر جزء هو قلب البلاد الذي يسيطر عليه السنة. وتفكك سوريا قد يرسي سابقة تمتد للجوار. فحتى الآن يقاوم العراق التفتت بسبب ضغوط خارجية ومخاوف إقليمية، لكن سوريا تجذب العراق حالياً إلى دوامتها. وقال «مارتن كوبلر» مبعوث الأمم المتحدة لمجلس الأمن في يوليو الماضي «إن ساحات القتال تظهر أن العراق هو الخط الافتراضي بين العالمين السُني والشيعي، وكل شيء يحدث في سوريا بالطبع له تداعيات على الخريطة السياسية في العراق». ومع مرور الزمن، فالأقلية السُنية في العراق وفي محافظة الأنبار بخاصة بغرب البلاد قد تشعر بأنها أقرب رحمى إلى شرق سوريا ذي الأغلبية السُنية. فالعلاقات القبائلية وأعمال التهريب تمتد عبر الحدود. وقد تشكل المنطقتان دولة سنُية بحكم واقع الحال أو رسمياً. وقد يصبح جنوب العراق فعلياً دولة شيعية. ولطالما طرح أشخاص من خارج المنطقة أسئلة عن: ماذا يحدث لو لم تنقسم الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى؟ هل الخريطة تعكس حقائق جغرافية أو كيانات معينة؟ وإعادة رسم الخريطة يثير حفيظة العرب الذين يشتبهون في مكائد أجنبية تستهدف تقسيمهم وإضعافهم أكثر. وجاءت انتفاضات «الربيع العربي»، فالعرب لم يريدوا الإطاحة بالطغاة فحسب بل أرادوا نزع الطابع المركزي عن السلطة لتصبح السلطة غير مركزية، وتعكس الهوية المحلية، أو الحقوق في الموارد. وقد ترسم الحدود الجديدة بطريقة منفصلة وربما فوضوية. وقد تتفكك الدول خلال مراحل من الاتحاد أو الانفصال السلس أو الاستقلال، مما ينتهي بطلاق جغرافي. وكانت الانتفاضة في ليبيا ضد القذافي في جانب منها لكنها عكست أيضاً مسعى بنغازي في الانفصال عن طرابلس المهيمنة. فسكان طرابلس ينظرون إلى المغرب الإسلامي، بينما سكان برقة ينظرون إلى المشرق الإسلامي، كما أن العاصمة تهيمن على عائدات النفط رغم أن الشرق يقدم 80 في المئة منه. وقد تنقسم ليبيا إلى قطعتين أو ثلاث. وبعد الإطاحة بعبد الله صالح الذي حكم البلاد لفترة طويلة دشن اليمن حواراً وطنياً في مارس لخلق نظام جديد. لكن نجاح الحوار في البلاد التي تعاني منذ فترة طويلة من تمرد الشمال وانفصاليي الجنوب مرهون بتبني فكرة الاتحاد الفيدرالي ووعد بأن يصوت الجنوب على الانفصال. وقد تظهر خريطة جديدة، فالعرب يكثرون الكلام عن اندماج جزء من جنوب اليمن في نهاية المطاف مع السعودية. مر قرن منذ أن وضع المغامر والدبلوماسي البريطاني سير مارك سايكس والمبعوث الفرنسي فرانسو جورج بيكو خريطة للمنطقة. فالقومية متجذرة بدرجات متفاوتة في بلاد تم تحديدها في بداية الأمر بناء على التفضيلات الاستعمارية والتجارية وليس على أساس المنطق. والسؤال الآن إذا كانت القومية أقوى من المصادر الأخرى للهوية أثناء الصراعات أو عمليات الانتقال الشاقة. ويميل السوريون إلى القول إن القومية ستسود في أي وقت تنتهي فيه الحرب، لكن المشكلة أن سوريا الآن بها عدد من القوميات. والتطهير مشكلة متصاعدة والمسدسات تفاقم الخلافات والصراع الطائفي يقسم الأراضي حالياً بين السُنة والشيعة بطريقة لم يشهدها الشرق الأوسط الحديث. لكن هناك عوامل أخرى قد تحفظ الشرق الأوسط من التفتت مثل الحكومة الرشيدة والخدمات الجيدة والأمن والعدالة والوظائف والتقسيم العادل للموارد المشتركة أو ربما الاتحاد ضد عدو مشترك. لكن هذه العوامل تبدو بعيدة في العالم العربي وكلما طال أمد الحرب في سوريا كلما زادت فرص عدم الاستقرار والمخاطر في المنطقة برمتها. روبن رايت باحث بارز في المعهد الأميركي للسلام ومركز ويلسون ينشر بترتيب مع خدمة «نيويورك تايمز»