في تاريخ الجنس البشري، هناك صراع دائم بين معسكري المعرفة والتنوير، من جهة، والجهل المقدس المتمثل في رفض النقد والتفنيد لمنظومة الدين أو فلسفة ومبادئ مجتمع معين وتقديس نمط ثقافي ومعرفي أوحد وبيئة الإنسان المباشرة، وما يمثل ويعكس ثقافته وموروثه وقيمه واعتبارها المثال الأفضل لما يمكن أن يُسمى تحضراً من جهة أخرى. فالمثقفون الحقيقيون في المجتمعات هم أعظم الثوار لتحقيق الاستقرار الاجتماعي البعيد عن سفك الدماء والإخلال بالنظام وسيادة القانون، فثورة الفكر هي الثورة الحقيقة التي يكون فيها التغيير له أثر إيجابي على المدى الطويل، بل هي ثورة وقائية للمجتمعات من شرور ثورات السلاح وسط الشعوب، التي لم يكتمل بناءها الثقافي والمعرفي. فالمفكر يجب أن يكون عونا كبيراً للمجتمع، ولا يعزل نفسه عن كل مستويات المجتمع ليصبح خبيراً في بناء "اليوتوبيا" فقط، وألا يفتقر إلى المعرفة التفصيلية لشؤونه الحياتية اليومية للفقير والغني على حد سواء، وألا يكون كل همه الخوض في مشاكل ميتافيزيقية عويصة. نحن بحاجة إلى مثقفين لهم نظرة واقعية معقولة، وأن لا يكون دورهم علاج فكر المجتمع وتصحيح مسار ثقافته وهويته، بقدر ما هو لفت نظر المجتمع لجوهر القضايا والتحديات التي تواجهه، وما الذي يمكنهم فعله حيالها من خلال حلول هم من يصلون إليها بجانب مؤسسات الدولة الرسمية والخاصة. لا المفكر ولا المثقف ولا التربوي ولا التنويري ولا الدولة أطراف مسؤولة عن أخلاق المجتمع وثقافته، بل المجتمع الإنساني قاطبة. الأخلاق والثقافة ليست مسألة تجريدية وقوائم ثابتة، ولا يجوز تسييس الفضيلة أو الثقافة وتسخيرهما لخدمة مذهب، أو فكر أو فصيل معين وخاصة في ظل المعاناة، التي تمر بها الثقافة العربية والإسلامية منذ القرن الرابع عشر، فلم يطرد المسلمين من جنة الأندلس كأرض فقط، بل حتى من نادي النخبة الثقافي العالمي، وأصبحنا أحد المتسولين للمعرفة وللثقافة الإنسانية الشمولية، بعد أن كانت المنطقة شعاعاً ومصدراً رئيسياً لهما. فالمثقف لا يمكن أن يسهم إسهاماً إيجابياً في الصالح الاجتماعي، إلا إذا كان صادقاً وإنسانياً في طرحه، وليس لديه دوافع خفية في صياغة فلسفته. وإذا كان لا يسعى إلى شعبية زائفة عن طريق السباحة مع المد والجزر الثقافي السائد، واستخدام المصطلحات والمفاهيم التي يرى من يعرف الحضارة والتحضر في عصرنا الحالي بأنها مقبولة ومناسبة، ولا بد أن يشرك نفسه في دراسة المشاكل التي تؤثر بشكل مباشر على المجتمع، وأن لا يبدد طاقاته في المضاربات الثقافية المعرفية العقيمة، فالمثقف الذي تسيره أجندة خاصة أشد خطراً على المجتمعات من الأفراد والجماعات الظلامية العنيفة التي تدعو للعنف. فعلى يد المفكرين الذين سخروا فكرهم لخدمة جهة أو شخص أو سياسة ارتكبت أبشع الجرائم في تاريخ البشرية. ومن صوَّر لهتلر أن العرق الآري عرقاً سامياً متفوقاً على جميع البشر، وباقي البشر خلقوا لخدمته، ويُعدون أناساً أقل إنسانية بالمقارنة معه، هم بالتأكيد ليسوا أقل جرماً ممن أعطى الأوامر بالتدمير والقتل، وارتكاب المجازر. وفي أزمتنا الحالية في "الربيع العربي"، نرى الكثير من هؤلاء المفكرين الذين يعتقدون بحرية الفكر على حساب دماء الشعوب ومصالحهم المباشرة، لأن المثقف الذي لا يقرب فكره وأطروحاته ومنتجه الأدبي أو الفني بين مختلف فئات المجتمع ويحدها نحو هدف مشترك، مُدان بقدر إدانة من يعارضهم وينتقدهم. الكثير من المثقفين والمفكرين في وطننا العربي يتلونون بلون البلد أو المجتمع أو المذهب أو العرق أو الانتماء القبلي الذي يمثلونه، ملتزمين بالشعارات الضيقة التي تدعو للولاء للمنطقة أو الطائفة أوالعقيدة أوالفلسفة أوالنظام الطبقي الذي يأتون منه بدلاً من نشر ثقافة التسامح والتعايش السلمي، وتقبل الآخر والتفكير بمنهجية وموضوعية، ونبذ الخرافات والمعتقدات غير العقلانية، ونقد المصالح الإقطاعية، والاحتكارية في مجتمعاتهم حتى في الفكر والمعتقد. المفكر والمثقف العربي بصورة عامة مع وجود استثناءات رائعة في وطننا العربي الكبير منغمس في الثناء على ما ينقله من فكر، ويقع في خطأ تسييس الثقافة والفكر، والذي برعت فيه الحضارة الغربية، وأوهمت الجميع بأنها أم كل الحضارات الإنسانية والعلوم الراقية، وطمست جذور كل معرفة ونسبتها لها، وهو أسلوب سائد في الإمبريالية الفكرية الثقافية كما يمعن المفكر العربي، وهو كائن اجتماعي تلقائي في تقديس الفرد أو المنظومة السياسية لتحريك المجتمعات بدلاً من إيجاد التوازن بين سلطة المجتمع وسلطة القانون والنظم السياسية القائمة للوصول للمعادلة الصحيحة لتطوير فكر الشعوب بعيداً عن التفكير الأسطوري والبنية الذهنية الناقلة للعلوم وظاهر المعرفة دون إخضاعها للتقييم التراكمي. وعليه أن التفكير المدرسي ضمن قوالب لها نهايات، واختزال العلم فيه بدلاً من النظر للعلم كاحتمالات دائمة التصحيح، ولا يوجد حكم نهائي به. العلم والمعرفة طريقة تعلم وتفكير، وليس مجرد معلومات، وعليه يجب تفكيك العقل العربي المعرفي والخلاص من الخديعة الكبرى، وهي أن كل ما يحتاجه المجتمع للرقي هو علوم الرياضيات والهندسة والطب والتكنولوجيا الرقمية الحديثة والاقتصاد وإهمال أهم مكونات بناء الإنسان كالثقافة ومبادئ المعرفة وملئ الفراغ الروحي والفكري والشعوري والأخلاقي. فالمعادلة الحالية في وجهة نظري، ستؤدي إلى الفشل حتماً إذا أهملت العلوم التاريخية والفنية والفلسفية والروحية والنفسية بداعي التصحيح والتجديد لمعالجة أصول وجذور تطرف وعنف وعصبية الأفراد والجماعات وتخلف الكثير من السلوكيات في المجتمع، فلا يمكن أن نعامل الفرد كظاهرة بيولوجية ومادية في ظل عدم انفتاحه على مختلف الحضارات والثقافات وحفريات المعرفة العالمية وإهمال العلوم الفكرية، وعدم درايته بأهم شعراء وأدباء وفناني ومفكري وعظماء مختلف الثقافات بداية بثقافته الأم. فلو عرف الطفل في المدرسة أن الإنسان الحديث هاجر من قارة أفريقيا لباقي قارات العالم، وأن الصحابة على سبيل المثال ليسوا نموذجاً واحداً، لأدرك أن الثقافة تتطلب ألا نخفي الحقائق التاريخية على الطلاب والمجتمع، وإن كانت صادمة ومخالفة لما نريد أن نصدقه، وانعكاس لما هو نحن عليه اليوم، وقد تعودنا عليها كحقائق لا تقبل النقاش في معركة وصراع الانتصار على جهلنا المقدس ونبذ العنصرية العرقية على سبيل المثال لا الحصر، فلو درس في مدارسنا أن العلماء الذين ساهموا في بناء الحضارة الإسلامية من كل جنس وقارة وهي حضارة عالمية إنسانية، وأن هناك الكثير من الرسل والأنبياء اليهود، وأن الأدمة كانت طبيعية بين العرب، وأن هاجر أم العرب المستعربة سمراء اللون، وأن الرسل مثل سيدنا موسى وهارون وهود ونوح ويوشع بن نون وذي القرنين ونبي الله صاحب الأخدود والحكيم لقمان والصحابة الكرام مثل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أو علي بن أبي طالب أو عمار ابن ياسر وزيد بن حارثة وطلحة بن عبيد الله وخال الرسول سعد ابن أبي وقاص وقائمة طويلة من الصحابة كانوا ذوي بشرة سمراء أو سوداء اللون إنْ شِئت حسب الكثير من المراجع التاريخية، بالرغم من هيئات الممثلين الذين يلعبون أدوارهم في المسلسلات التاريخية ورفض ذكر تلك المعلومات نهائياً وكأنها غير موجودة في أي مرجع تاريخي بالرغم من كثرتها. هذا التنوع في الطرح يجعل الطالب على أقل تفكير يقف ويتأنى ويفكر ويبحث ويقارن بين ما يسمعه في مجتمعه، وما هو مخفي عنه كخط أحمر وسيراجع المراجع العلمية الجينية عن أصول الإنسان وسيصدم مرة أخرى بصور إيجابية، وهذا هو دور المثقف الحقيقي صدم المجتمع بحقائق موثقة وعلمية، وإنْ لن يقبلها، ولكن ستثيره ليبحث عنها، وسيتساءل لماذا أخفيت عنه طوال حياته، ليصبح قارئاً تحليلياً، وناقداً نقداً مقارناً لكل ما يقرأه بدلاً من التلقين الذي تعود عليه طوال حياته، وينظر لباقي الحضارات والشعوب بصور مختلفة، وبأن ما بين البشرية من عوامل مشتركة تقربها أكثر بكثير من السدود الصناعية التي سطرها الإنسان ضد أخيه الإنسان في معركة التفوق بأي ثمن. فإن لم يستطع المثقف والمفكر المساهمة الفعلية في تغير أنماط الأفكار السائدة والتقليدية في مجتمعه نحو مرحلة الفلسفة الكونية والمثقف الإنسان، فمن العار أن يُطلق عليه مسمى مثقف أو مفكر، وقس على ذلك باقي مجالات الحياة والعناصر الفاعلة فيها في مختلف المجالات.