لاشك أن هنالك الآن مؤشراً مهماً للتحولات التي قد تؤسس لواقع جديد للعلاقات الدولية والنظام العالمي المعاصر يتجسد في الكيفية التي نجح بها بوتين وبلاده روسيا مؤخراً في سرقة الأضواء وسحب البساط من أوباما والولايات المتحدة، اللاعب الأهم والأكثر تأثيراً على المسرح الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويتضح ذلك في مباغتة بوتين لأوباما وأميركا في الشأن السوري، وفرملة العملية العسكرية ضد نظام دمشق. وبمقال رأي لبوتين يستفز ويتحدى أوباما في عقر داره، ويحاضر عليه ويحرض الشعب الأميركي على رئيسه وإدارته! ومن الملفت والمهم هنا ملاحظة الكيفية التي حوّل بها بوتين روسيا من دولة لا تملك مقومات التأثير الاستراتيجي، ودخلها يمثل عُشر دخل الولايات المتحدة، إلى لاعب مؤثر على مجريات الأوضاع الدولية عامة والشرق أوسطية خاصة، وربما بشكل أكثر تأثيراً وأهمية من أميركا نفسها، وهذا قد يؤسس لواقع عالمي جديد. والراهن أن الصعود الروسي إلى درجة سرقة الأضواء من الولايات المتحدة، كان واضحاً بممارسات ومواقف روسيا وبوتين الذي يقودها للعودة إلى المسرح الدولي كقوة مناوئة ومزعجة للغرب، بأجندتها ومصالحها، وساعية لإنهاك واستنزاف أميركا أكثر في مسارح عمليات خارج مناطق نفوذ روسيا الاتحادية في القوقاز وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق... إلى درجة أن روسيا ترسل الآن مدمراتها للمتوسط، وتهدد بتسليح الأسد بأنظمة صاروخية دفاعية متطورة، وكذلك تسليح إيران، ما يهدد توازن القوى مع إسرائيل. وكذلك الصفعة القوية التي وجهتها روسيا للولايات المتحدة بمنح لجوء سياسي لأدوارد سنودن، عميل الاستخبارات الوطنية الأميركية الذي سرّب معلومات حساسة ومحرجة عن برنامج التنصت الذي تطبقه الولايات المتحدة ضد خصومها وحلفائها معاً.. وكذلك أيضاً تأمين روسيا للغطاء والحماية ضد توجيه ضربة عسكرية أميركية وغربية للنظام السوري. ومنذ البداية لعبت روسيا دوراً مؤثراً بانحيازها للنظام في سوريا ودعمه، ولا تزال تدعمه عسكرياً ومعنوياً... وبالطبع يعمد الكريملن إلى تصعيب مهمة أوباما، وإظهار أميركا ورئيسها في وضع متراجع... وفي النهاية قدم بوتين في اللحظات الأخيرة مبادرة هي عبارة عن «ضربة معلم» بتسليم ترسانة سوريا من السلاح الكيماوي ووضعها تحت رقابة المجتمع الدولي، وإقناع دمشق بالموافقة على التوقيع على معاهدة حظر السلاح الكيماوي، ما يُشكل انقلاباً كلياً قلب الطاولة ونفـّس الاحتقان وجعل العملية العسكرية أمراً غير وارد على الأقل في المستقبل المنظور. وهكذا نجحت روسيا -بوتين في إنزال أوباما من الشجرة حيث كان يواجه مغامرة قد تصل إلى درجة الإهانة الشخصية له في حالة رفض الكونجرس للضربة، وهذا كان وارداً بقوة بالنظر لاستطلاعات الرأي المعارضة لها، ومن واقع القراءة في توجه وتشكيك كثير من أعضاء الكونجرس في مسوغات العملية العسكرية. وأتبع بوتين ذلك في تأكيد للندية مع واشنطن بإرسال وزير خارجيته لافروف إلى جنيف وعقد سلسلة من الاجتماعات مع كيري، لوضع النقاط على الحروف، وإصدار قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع يضمن تدمير الكيماوي السوري، وهذا قد يطول ويشتري المزيد من الوقت. وأنهى بوتين الأسبوع بمفاجأة أوباما، بنشر مقال رأي جريء ومستفز في صحيفة «نيويورك تايمز» حرض فيه الشعب الأميركي الذي خاطبه مباشرة محذراً من أي عمل عسكري بشكل فردي ضد سوريا تقوم به واشنطن دون غطاء من مجلس الأمن، ومن تهميش الأمم المتحدة وتحويلها إلى منظمة فاشلة كعصبة الأمم. وحذر بوتين في مقاله أيضاً من أن الضربة «ستزيد من أعمال العنف، وتطلق العنان لموجة من الإرهاب. وذلك سيقوض المساعي الدولية لحل مشكلة النووي الإيراني والصراع العربي الإسرائيلي. وهذا كله سيجعل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منطقة غير مستقرة. ما سينعكس سلباً بدوره على أمن واستقرار وتوازن النظام العالمي برمته»! هذا على رغم مبالغة بوتين الواضحة، واستخدامه لحق يراد به باطل، وهو آخر من يحق له التكلم عن تقويض الأمم المتحدة و«الفيتو»، لأن روسيا مع الصين استخدمتاه ثلاث مرات لحماية الأسد. وقد منح ذلك الوقت والغطاء لنظام دمشق، ومنع إنهاء مآسي الشعب السوري. ومن الواضح هنا أن الرئيس الروسي تناسى أن بلاده تحت قيادة الاتحاد السوفييتي السابق قامت بغزو واحتلال أفغانستان عام 1979 ولمدة عقد كامل، فيما عُرف بفيتنام روسيا في عز الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ما أفرز ظاهرة «العرب الأفغان» وشخصية مولتها وسلحتها الاستخبارات الأميركية هي أسامة بن لادن لمواجهة الموجة الشيوعية في أفغانستان ومنعها من الاقتراب من مياه الخليج الدافئة. كما تناسى بوتين أيضاً في مقاله الذي يغمز من قناة الولايات المتحدة، ويحاضر على رئيسها، شن روسيا حربين طاحنتين، وعلى مرحلتين، لقمع مطالبات الشيشانيين بالحصول على حكم ذاتي... والممارسات التي ارتكبتها الآلة العسكرية الروسية ضدهم. والحال أن مقال بوتين، الخميس الماضي، أثار موجة من الانتقادات الواسعة في دوائر صنع القرار الأميركي.. وفي وقت لم يعلق فيه البيت الأبيض والخارجية على المقال، تولى الديمقراطيون والجمهوريون في الكونجرس مهمة الرد عليه، وعلى رأسهم روبرت منديز رئيس لجنة الشؤون الخارجية النافذة في مجلس الشيوخ، الذي انتقد مقال بوتين ووصفه بأنه «يدعو للغثيان»، معلقاً: «أشعر بالقلق عندما يحاضر علينا شخص من خلفية استخبارات "كي جي بي" عن مصالحنا الوطنية، وهذا يثير شكوكنا بجدوى المبادرة الروسية» حول وضع السلاح الكيماوي السوري تحت الرقابة الدولية. أما السيناتور الجمهوري المخضرم جون ماكين فقد وصفه بأنه «إهانة لعقل وذكاء كل مواطن أميركي». ولكن المثير للدهشة هو التغيير الكبير الحاصل الآن على المسرح الدولي بما فيه من تراجع أميركي وتقدم روسي، وعودة موسكو بكل زخم وقوة لمقارعة واشنطن. وقضية سوريا تبدو أحد تلك المؤشرات. وفي المجمل تمر العلاقات الأميركية- الروسية الآن بحقبة جديدة من التشكيك، وحرب باردة ثانية. وقد برز ذلك، كما سبقت الإشارة، بمنح عميل الاستخبارات الأميركي الفار سنودن حق اللجوء السياسي على رغم احتجاج واشنطن ومطالبتها بتسليمه لخرقه قوانين السرية التي أحرجت أميركا حتى مع حلفائها.. وإلغاء أوباما لقاءً ثنائياً مع بوتين على هامش قمة مجموعة العشرين مطلع الشهر الجاري في مدينة سان بطرسبورج الروسية، التي كرست الانقسام حول الأزمة السورية، بسبب الموقف الروسي المتشدد والداعم لنظام دمشق. ولكن المثير مع تراجع ثقل وتأثير واشنطن وتقدم موسكو، هو كيف يقرأ خصوم أميركا هذا التراجع الأميركي، وكيف يُفسر كضعف وتردد، ما يشجعهم على تحديها، وبالتالي تفقد واشنطن قوة الردع والهيبة. وكذلك حلفاؤها الذين يتساءلون بقلق: ماذا حل بالدولة العظمى؟ ولماذا هذا التراجع؟ وهل يمكن الاستمرار في التعويل عليها والاعتماد على مظلتها الأمنية ودورها في حل المشاكل؟ والسؤال المحوري: هل سرقت روسيا الأضواء وقلبت الطاولة على واشنطن بمقارعتها نداً لند ليتأسس واقع مخلف، ونظام عالمي جديد، أم أن هذا مجرد استثناء عابر سرعان ما سيتلاشى كفقاعة صابون؟ إن مجريات الأحداث المستقبلية في سوريا وغيرها من الملفات كفيلة بالإجابة على ذلك.