انشغلت كثيراً في تأمل ما جادت به مواقع "التواصل الاجتماعي" على الذين ثاروا في بعض بلاد العرب، لكنني قلت في اليوم الرابع للثورة المصرية إن الذي صنع التحول هو "الناس بوك"، وليس "الفيسبوك"، فنزول الملايين إلى الشوارع يوم "جمعة الغضب" جعل للخطوة الأولية التي أطلقتها "الطليعة الثورية" على "الشبكة العنكبوتية" معنى، ومنحت أصحاب "الرؤية" ما كانوا يفتقدونه على مدار سنوات من "قدرة"، ثم أكسبتهم بالتتابع "شرعية" لم تلبث أن تسربت من بين أيديهم حين انحرف الأمر عن مساره، وفسد كل شيء إلى حين. قبل الثورة المصرية بسنوات أصغيت إلى د. جمال مختار وهو يعرض كتابه الملون الذي أسماه "حقيقة الفيسبوك: عدو أم صديق؟"، أيامها لم أكن قد أنشأت صفحتي عليه، وكان شيئاً جديداً مثيراً غريباً ومخيفاً في آن واحد. كانت مقدمة الكتاب الذي أعد على عجل ليواكب لهفة الأسئلة عن هذا الزائر الجديد كاشفة لما يدور في رأس مؤلفه، إذ قال: "فجأة اقتحم حياتنا الفيسبوك، ومن دون أي مقدمات أصبح شيئاً أساسياً في النظام اليومي لعدد كبير منا. أكسبنا معرفة بناس جدد، ورجع إلينا صداقات قديمة وزملاء دراسة تخيلنا أننا لن نراهم أبداً. تسلينا به كثيراً وتسلى بنا أكثر. ولم ندرك مدى خطورته أو الغرض من إنشائه، ولكن سمعنا الكلام ونفذنا التعليمات دون مناقشة، أنشأنا صفحات ومجموعات صداقة وتبادلنا ملفات ومعلومات، واستفدنا منه، لكن هناك من استفاد أكثر حين حولنا إلى أداة لتنفيذ رغباته دون أن نشعر". وما أتذكره جيداً الآن أن المؤلف لم يدر بخلده أبداً أن هذه الوسيلة ستمنح شباب مصر فرصة لبناء شبكة اجتماعية في العالم الافتراضي افتقدوا تواجدها في دنيا الناس، ليستخدموها في بناء "طليعة ثورية" أطلقت الشرارة الأولى، فسرى الغضب كما تسري النار في الهشيم، وهي المسألة التي رصدها الباحث جمال غيطاس في دراسة مهمة عن أثر الفيسبوك على ما شهدته مصر في يناير 2011. وبعد الثورة قرأت أخباراً عديدة عن كتاب جديد ومختلف في الموضوع ذاته للدكتور جمال سند السويدي مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية وأستاذ العلوم السياسية المشارك بجامعة الإمارات أعطاه عنواناً لافتاً هو :"من القبيلة إلى الفيسبوك: وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في التحولات المستقبلية"، لأجد فيه إجابة على بعض الأسئلة التي تدور في رؤوسنا جميعاً، ونحن نلهث أمام الحاسوب على صفحات إلكترونية محتشدة بالأسماء والصور الحقيقية والتعبيرية والأخبار والمعلومات والإشاعات والمقاطع المتلفزة والرسوم الكاريكاتورية. ويحدد المؤلف منذ الصفحات الأولى دافعه لتأليف هذا الكتاب قائلاً: "أردت إطلاق صيحة تنبيه كاشفة لما رأيته من إيجابيات وسلبيات تطرحها علينا تكنولوجيا الاتصال مع بزوغ شمس كل يوم جديد" ثم يمضي طارحاً وشارحاً لعناوين عديدة تبيّن مفهوم ودور وسائل التواصل الاجتماعي، ويبرهن على هذا بالأرقام والرسوم البيانية، وبعدها يضع المسألة في سياقها من خلال استعراض سمات عصرنا الذي ولد فيه "الفيسبوك" وأخوته، وكيف تطورت هذه الأداة بمرور الوقت لتزداد سرعة واتساعاً وإبهاراً وتأثيراً في حياتنا الراهنة؟ وكيف تركت بصمة جارحة على وسائل الإعلام التقليدي المقروءة والمسموعة والمرئية، تارة من خلال تبادل المنافع، وطوراً عبر المنافسة المفتوحة بلا روية ولا هوادة؟ ولا يتركنا حتى يقلب أمامنا صفحات أخرى عن الإشكاليات القانونية المترتبة على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ثم يسعى إلى التنبؤ بمستقبل هذه الوسائل ومستقبلنا نحن معها. ويفتح الكتاب آفاقاً جديدة للتفكير في القضية التي تشغل علماء السياسة والاجتماع والأنثروبولوجيا منذ زمن حول دور التحديث والحداثة في تفكيك أو تحلل البني الاجتماعية التقليدية عبر تغيير أنماط القيم السائدة في بعض المجتمعات المغلقة والمعزولة التي يتم الإلقاء بها فجأة في نهر العولمة الدافق المتجدد، الذي نقل العالم من "قرية صغيرة" حسب التعبير الذي شاع في أوائل تسعينيات القرن المنصرم إلى "غرفة ضيقة" مع ظهور الفيسبوك وأضرابه. وهنا يثار التساؤل: هل بوسع القبيلة أن تبقى "وحدة اجتماعية متماسكة" مع توزع اهتمامات وولاءات وانشغالات عشائرها وبطونها وأفخاذها وأفرادها وذوبانهم في كيانات إنسانية تتمدد فوق كوكب الأرض برمته؟ وهل تسهم وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية في هذا الذوبان وتسرّع منه أم تفعل العكس؟ إن الخائفين على "الهوية" و"الخصوصية" ملأوا الدنيا ضجيجاً وأنيناً من أن فرادتهم ومواطن تميزهم وموروثهم الحضاري والثقافي في خطر داهم بفعل سرعة الاتصالات وتدفق المعلومات والقيم بشكل غير متوازن من الشمال إلى الجنوب، وبلغ التوجع مداه مع ظهور "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" بل تجدد في ركابها الحديث المسهب عن المؤامرة، ولكن ما حدث في الحقيقة أن هذه الوسائل أتاحت لأصحاب الخصوصيات تلك عرضها على العالم بطريقة ميسرة وغير مكلفة، بل أعطتهم ما كان في الماضي فوق طاقتهم، وليس عجباً هنا أن يعترف مستشار وزارة الداخلية الألمانية بأن عدداً كبيراً من الألمان التحقوا بالتنظيمات السلفية و"الجهادية" بعد أن تم تجنيدهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المدونات، والأغرب هو هذه الصفحات التي أنشأها البعض على "الفيسبوك" لتضم أبناء القرية أو القبيلة أو العائلة المتفرقين حول العالم، الأمر الذي يعيد طرح الاستنتاج النهائي لنظريات التحديث وهو: "القديم لا يمكن أن يموت كله". ومع هذا يحذر الكتاب من الزلزال الذي ستحدثه وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها أحد تجليات العولمة الثقافية والتقنية في تصوراتنا عن الدولة والسيادة والمواطنة والمسؤولية الإعلامية، وتقديرنا للاعبين السياسيين الجدد ومنهم نشطاء الإنترنت الذين بات بوسعهم أن يشكلوا الرأي العام المحلي، ويفرضوا تحدياً أمام السلطات يدفعها إلى البحث عن سبل مختلفة في الرقابة والتحكم والمتابعة، حتى لا يفلت الزمام من أيديها. ولم يقتصر الكتاب على الجوانب النظرية، وإنما عزز مسار البرهنة بضرب الأمثلة وعرض الإحصاءات، وقد يكون مفيداً في طبعاته التالية أن يضيف فصلاً يحوي دراسة ميدانية على عينة ممثلة من الشباب في دولة الإمارات، يجاب فيها على الأسئلة الرئيسة التي طرحها والافتراضات التي انطلق منها، وفصلاً آخر يحلل فيه المضامين الواردة في صفحات الكثير من هؤلاء الشباب، للوقوف على ما يتداولونه من معلومات وما ينشرونه من قيم وتوجهات وما يتصورنه عن الذات والعالم.