ما على المرء سوى أن ينظر لقائمة الشخصيات البارزة، التي حضرت جنازة مارجريت تاتشر المهيبة في كاتدرائية سانت بول في لندن، في السابع عشر من إبريل الجاري، كي يكوّن فكرة عن مدى التوقير الذي كانت تحظى به تلك السيدة الفذة. ضمّت الجنازة كل رؤساء وزراء بريطانيا الأحياء، ووزراء الخارجية الأميركيين السابقين، مثل جورج شولتز وجيمس بيكر، وكان أبرز الحاضرين كافة ملكة بريطانيا ودوق أدنبره. وكي يتسنى لنا تقدير مدى أهمية إرث تاتشر، قد يكون من الأهمية بمكان تذكر الأشياء السيئة التي كانت موجودة في بريطانيا والولايات المتحدة في عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكيف تمكنت هي وصديقها الرئيس الأميركي ريجان من تغيير الدولتين في عقد الثمانينيات. تولت تاتشر منصب رئيسة وزراء بريطانيا عام 1979، وظلت فيه حتى عام 1990، ما يعني أنها كانت أطول الساسة البريطانيين خدمة في هذا المنصب في القرن العشرين. وورثت تاتشر، عن رؤساء الوزراء السابقين لها دولة كانت في حالة يرثى لها. وخلال السنوات القليلة الأولى من مدة خدمتها، عانى الاقتصاد البريطاني تضخماً تجاوز عشرة في المئة، كما كانت نسبة البطالة تبلغ 12 في المئة، علاوة على ما آلت إليه العلاقة بين الاتحادات المهنية والقطاع الصناعي، والتي تدار في غالبيتها من قبل الحكومة، من عدائية شديدة للغاية لدرجة أن إضرابات العمل المعوقة، باتت أمراً عادياً في تلك الفترة، كما كان المواطنون البريطانيون العاديون يعانون انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي. أما قطاع مترو الأنفاق، فكان في حالة من الفوضى العارمة، وهو ما كان ينطبق أيضاً على مطار هيثرو الشهير الذي أصبح مستوى الخدمة السيىء فيه في ذلك الوقت معروفاً للقاصي والداني. وفي الوقت نفسه ارتفعت أسعار الغاز لعنان السماء بسبب الثورة الإيرانية، وعرفت بريطانيا في تلك الفترة بـ«رجل أوروبا المريض»، وهو اللقب نفسه الذي كان يطلق على الإمبراطورية العثمانية التي كانت تواجه محنة كبرى في القرن التاسع عشر. تعهدت تاتشر في ذلك الوقت بخصخصة معظم الصناعات البريطانية المدعومة من قبل الحكومة، وبتقديم قوانين جديدة للحد من نفوذ الاتحادات المهنية. وكانت مصممة على الحد من انتشار دولة الرفاه، وعلى تشجيع تقديم المكافآت للذين يؤدون أعمالًا شاقة، وتقليصها لهؤلاء غير الراغبين في العمل. وفي سياق ذلك، تطورت تاتشر لتصبح أكثر رؤساء الوزراء البريطانيين إثارة للانقسام، وأكثرهم كفاءة في الوقت نفسه في التاريخ البريطاني المعاصر بأسره. وفي عقد الثمانينيات كانت أخبار معاركها مع اتحادات العمال، وعلى وجه الخصوص اتحاد عمال المناجم، عنواناً رئيسياً باستمرار في الصحف الشعبية. ولم يتمكن سوى عدد محدود للغاية من الناس في ذلك الوقت من المحافظة على حياد رأيه تجاه «السيدة الحديدية» التي كانت حريصة على حمل حقيبة يدها باستمرار. وكانت شعبية تاتشر في الولايات المتحدة تفوق شعبيتها في بريطانيا ذاتها. وأكثر شيء يذكّر الأميركيين بها موقفها القوي المناوئ للشيوعية، وقرارها الشجاع بصد العدوان الأرجنتيني على جزر فوكلاند عام 1982، وعلاقتها الوثيقة للغاية بالرئيس ريجان. وبالنسبة لريجان كانت تاتشر «توأمه الروحي»، فهو أيضاً ورث دولةً تعاني حالة من الاضطراب، بدءاً من من عقد السبعينيات. وكانت الولايات المتحدة، شأنها في ذلك شأن بريطانيا، تعاني متاعب اقتصادية عديدة كان أكثرها بروزاً هو التضخم. ومما كان يفاقم من تلك المتاعب، المهانة اليومية التي كان يتعرض لها الرئيس جيمي كارتر بسبب النظام الثوري الجديد في إيران، وقراره الخاص بالموافقة على أخذ رهائن من الموظفين الدبلوماسيين العاملين في مقر السفارة الأميركية بطهران. كانت أميركا تحتاج إلى قيادة قوية لمعالجة تداعيات الحرب الفيتنامية، وآثار فضيحة ووترجيت التي دمرت المستقبل السياسي للرئيس نيكسون. ولم يكن الرئيس كارتر، كما كان واضحاً في ذلك الوقت، قادراً على تقديم نمط القيادة المطلوبة، بل أصبح قانطاً للغاية من حال الاتحاد، وكان يتحدث في خطبه عن «المرض الذي أصاب الوطن»، مستنبطاً أن أفراد الشعب الأميركي أنفسهم، كانوا المسؤولين عن محنتهم. وعلى النقيض من كارتر، بدا ريجان، عندما تولى الحكم، مثله في ذلك مثل تاتشر، واثقاً من نفسه إلى أقصى حد، ومتفائلًا تماماً بشأن قدرته على إعادة صياغة أميركا، واستعادة احترام العالم لإنجازاتها وإمكانياتها. وجد الزعيمان مصاعب جمة في سنواتهما الأولى في الحكم، لكن وبحلول منتصف الثمانينيات، كانت هناك تطورات هائلة تحدث في بلديهما. كان أكثر تلك التطورات دراماتيكية هو بروز ميخائيل جورباتشوف كسكرتير عام للحزب الشيوعي السوفييتي، وهو تطور مثّل مؤشراً على بداية نهاية الحرب الباردة. كانت تاتشر هي أول من قابل جورباتشوف عام 1984 قبل أن يسيطر على مقاليد السلطة بالكامل في بلده، وأعلنت أنه «الرجل الذي بمقدور أميركا وبريطانيا العمل معه». وعلى مدى السنوات الخمس التالية، تعاونت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، من أجل التوصل إلى اتفاقية، كانت الأولى من نوعها، للحد من الصواريخ. وفي نهاية المطاف، وفي عام 1989 سقط حائط برلين، وبعد ذلك بعام أصبح الاتحاد السوفييتي أثراً بعد عين. كانت هناك بالطبع أسباب أخرى لتلك التحولات الحاسمة غير القيادة الأميركية والبريطانية، بيد أنه ليس هناك شك في أن موقف تاتشر غير المهادن، تجاه قضايا السياسة الداخلية والخارجية، قد ضمن لها مكاناً في سجلات التاريخ. وكانت كلمات الإشادة التي وجّهها لها قادة حزب العمال المعارض عقب وفاتها، اعترافاً منهم بإراداتها التي لا تلين، أكثر من كونها تعاطفاً مع شخصيتها، أو موافقة على سياساتها. ولو قيلت تلك الإشادات وهي حية، فمن المؤكد أنها كانت ستعبر عن عظيم امتنانها وتقديرها لها.