لأننا نسكن طرف الجانب المشارقي من الوطن العربي الكبير، لهذا كانت ثقافتنا وقراءاتنا لا تتعدى حدود هذه الضفة فيما يختص بالأدب العربي الحديث، رغم أن اهتماماتنا الأدبية هذه قد تتعدى حدود الوطن الكبير فنقرأ لمشاهير الكتاب والشعراء من مختلف ثقافات الشعوب وأزمنتها المختلفة، وأننا قد نرصد ونجتهد في تتبع جديد أدب أميركا اللاتينية مثلًا، ونكون أكثر شغفاً واهتماماً ومعرفةً به حتى من شعوبها المغلوبة التي شغل معظمها لهاث لقمة العيش عن فسحة القراءة والتعرف إلى نجوم آدابها وفنونها. لماذا، عندما نتحدث عن أدب دول المغرب العربي، نبدو كأننا مصابون بالأمية الثقافية، فلا نتفق على أعمال ولا أسماء لها رنين في ذاكرتنا، وأثرت فينا مثلما هم رواد المشرق أو غيرهم من رموز أدب دول العالم الأخرى؟ قد يبدو أن سبب هذه الصورة، أو القناعة هو غياب الشق الآخر، فلا وهج أو حضور بارز للأدب المغربي على هذه الضفة طوال أزمنة عديدة، فالإعلام المغاربي ودُور صناعة الكتاب هناك لم تحاول نشره وتقديمه إلى هذه الأسواق البعيدة، فما عرفناه في السنوات الماضية من الإبداع المغاربي في مجال الرواية مثلًا لم يتعد عمل «الخبز الحافي» لمحمد شكري والتي ُطبّل لها، طوال حقبة زمنية مديدة، فكانت ممنوعة من التداول في معظم الأسواق العربية، لكنها تهرّب وتباع في السر، وتسكن تحت طاولات بعض دور التوزيع لزبائن الممنوع. وعندما تعرفنا بعد دهر إلى ثراء وتنوع الأدب المغاربي، عرفنا أن تلك الرواية كانت أسوأ ما عرفنا منه. وعندما تحركت حروف الطباعة العربية في دول المغرب العربي، ونشط التواصل وتواجد الأديب المغاربي بقوة وثقة وإبداع في ساحته العربية بالمشرق، اكتشفنا أن الأدب المغاربي غني ومميز، وفيه من الإبهار والروعة واللغة الجميلة، بعذوبتها ومتعة مفرداتها، والتي كنا نظن أنها قاصرة علينا وحدنا، وجدنا من خلال تلك الأعمال أننا نتشارك في أحلامنا وأيضاً في همومنا، رغم البعد المكاني واختلاف التضاريس واللهجات. نقرأ على سبيل المثال في «معذبتي»، وهي رواية سالم بنحميش وزير الثقافة المغربي السابق، عن جو الخوف والسجن والجاسوسية والعميل المزدوج وغسيل العقول، كذلك في رائعة "القوس والفراشة" للوزير المغربي السابق أيضاً محمد الأشعري عن وجع الموت وتركة الإرهاب، وفي «دمية النار» لبشير مفتي نطالع حكاية الدم المستباح ودولة الفساد التي تحكم الدولة الشرعية. أو رواية «سعادة السيد الوزير» لمؤلفها التونسي حسين الواد، والتي يحتفي بها الإعلام هذا العام لكونها ضمن القائمة القصيرة للبوكر، وسيرة الفساد عندما يستشري ويمارس في رأس الهرم وكيف يكون الاستغلال والخداع والكذب والنهايات. أعادتنا كذلك بعض الأعمال الحديثة في هذا الأدب إلى ماضي الرومانسية وخيالات الصورة واللغة الجميلة التي يكتب بها كرواية «جيرترود» للروائي والصحفي المغربي حسن نجمي، فذائقة التاريخ والخيال الدرامي واللغة الشعرية حاضرة بقوة في عالمها، وكذلك «روائح ماري كلير» للتونسي الحبيب السالمي صاحب «نساء البساتين». قد يكون للمهجر، واحتضان الغرب للمبدع المغاربي دوراً كبيراً في شهرة البعض وعالميته، فلولا دور النشر العريقة وحملات التسويق والانتشار لما عرف العالم، وعرفنا نحن في المشرق العربي تلك القامات الأعلام. فالساحة الأدبية في فرنسا وإيطاليا، وأوروبا عموماً، استطاعت أن تحتضن هذه الأقلام، وتوفر لها مناخ الإبداع وتعطيها مجد الشهرة، رغم أن معظم ما كتب هؤلاء من أعمال إبداعية بلغات أجنبية كانت تأتي من وحي فضاءات الشرق، وخيالات واقع بلدانهم التي عاشوا فيها فأبدعوا من هوى سحرها الذي كان، رغم مرارة حاضرها المعيشي الذي فرض عليهم الاغتراب والهجرة الأبدية. كذلك، من المتغيرات التي برزت في السنوات الأخيرة، وقرّبتنا إلى الأدب المغاربي، استحداث جائزة «البوكر» العربية، فواحدة من الإنجازات التي حققتها لنا هذه الجائزة أنها قرّبتنا أكثر من المشهد الثقافي في بلدان المغرب العربي. لكن يبدو أنها علّة مزمنة تعودناها في الحالة العربية، وهي أنه لا يرضى «الكبار» عندنا بالجديد إلا إذا كانوا هم الصنّاع أو الشركاء أو الملهمون أو المباركون له، وتبدو حالة «المعلم» هذه بصورة أكثر وضوحاً في الساحة الثقافية وفي مختلف شؤونها وقضاياها. و«البوكر» العربية هي واحدة من أكثر القضايا التي يشتد النقاش حولها بين الكبار، خاصة مع اقتراب نتائجها في كل موسم. الخلاف الذي يستعر كل مرة: لماذا فاز فلان؟ وتشتعل نظرية المؤامرة التي أصبحت لصيقة بردة الفعل العربية؛ فمرة لأنها تحيزت لبلد دون آخر بحكم هوية لجان الاختيار! أو أنها تعمدت إقصاء الكتّاب الجيدين والأسماء المهمة! ومرة أخرى أنها حابت أدب الخليج «الهش» حسبما يحاولون إلصاق صفة الدونية الأبدية به في نظرهم! أو أن الأعمال المرشحة للقائمة القصيرة مسيّسة! وفي كل دورة تعلن الجائزة عن المحكمين ورئيس اللجنة، ونكتشف أنها قائمة لها ثقلها وتاريخها في الثقافة العربية، وقد تلام على اختياراتها، لكنها في النهاية تعلن معاييرها وتظل الذائقة الفنية مختلفة في هذا المجال تحديداً، لكن لا يعني ذلك أن نحكم على مشروع الجائزة بأنه فشل، أو نجعل مهمتنا القضاء عليه. لا أتحدث عن الأديب أو المهتم بكتّاب الرواية، لكن القارئ الشاب أو الجمهور عموماً، هل كان سيتعرف إلى كاتب مثل يوسف زيدان أو روائية سعودية مثل رجاء عالم، لولا «البوكر» العربية؟ هل سيشتهر طبيب روائي مبدع مثل السوداني أمير تاج السر، أو العراقي سنان أنطوان، أو المصري عز الدين فشير، أو ناصر عراق..؟ وهل كان القارئ سيذهب للبحث عن جديدهم لولا قائمة «البوكر» العربية؟ ولولاها أيضاً هل كنا لنسمع أو لنقرأ لكتاب، مثل الكويتي سعود السنعوسي، أو اللبنانية جني فواز الحسن، أو السعودي محمد حسن علوان..؟ إنهم جيل شاب مبدع ولد في الثمانينيات واستطاع أن يكون ضمن نجوم القائمة القصيرة للجائزة في دورتها الحالية. الجائزة ليست في العمل الفائز، وإنما في قائمة الأسماء المرشحة في كل دورة، وفي العمل الإعلامي والتسويقي الذي تقدمه لهذه الأعمال، ولهؤلاء الكتاب ولدور النشر وللأدب العربي بشكل عام، فهل يجب أن تسقط «البوكر» العربية حتى ينتصر الأدب ويرضى الكبار!