نواصل اليوم رحلتنا عبر تتبع خطاب الأزمة كما تجلى في روايات «البوكر»، منطلقين من فرضية أساسية تتمثل في أن هذا الخطاب يعد دالًا على الآفاق التي وصل إليها الإبداع العربي في مجال الرواية من ناحية، وطبيعة السمات التي تتسم بها هذه الآفاق من ناحية ثانية. وأن الروايات الست التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية تعد من أفضل ما وصل إليه الإبداع الأدبي في مجال الرواية، من ناحية ثالثة. وقد قدمنا في مقالين سابقين تحليلًا لأربع روايات (أنا وهي والأخريات، يا مريم، مولانا، سعادته سيادة الوزير). ونتوقف اليوم عند آخر محطة في رحلتنا مع بقية الروايات، حيث نقدم قراءة لخطاب الأزمة، في روايتي: «القندس» للأديب السعودي محمد حسن علوان، و«ساق البامبو» للأديب الكويتي سعود السنعوسي. وسوف يكون منطلقنا في قراءة خطاب الأزمة من خلال التركيز على أزمة الذات وأزمة الهوية كما تجسدت داخل هذا الخطاب. ولا أخفي على القارئ الكريم الأهمية التي تحتلها عندي هاتان الروايتان، كونهما ترصدان طبيعة التحولات التي طالت مجتمعين من مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي: المجتمع السعودي والمجتمع الكويتي، على المستوى الاجتماعي والأسري والاقتصادي والثقافي والسياسي. وما هو أهم أن هاتين الروايتين -في ثنايا رصدهما لطبيعة تلك التحولات- تبرزان بشكل إبداعي كيف تعبر هذه التحولات عن أزمة الهوية. ولا شك أن هذه التحولات، وهذه الأزمة (أزمة الهوية، وأزمة الذات) كانت -ولا تزال- مثار اهتمام الكثير من الباحثين في مختلف فروع العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ وقت مبكر. حيث نجد طائفة كثيرة من الدراسات التي ركزت على رصد طبيعة التحولات التي شهدتها دول مجلس التعاون على مستوى النظام الاقتصادي، بعد اكتشاف النفط، وانتقال هذه الدول من اقتصاد الندرة إلى اقتصاد الوفرة، وما ترتب على ذلك من ارتفاع مستوى المعيشة وتحسن نوعية الحياة، وما واكبه من تدفق العمالة الوافدة، وتنامي ظاهرة الخدم والمربيات، وتأثير ذلك على بنية الأسرة، وعلى دور المرأة، وعلى اللغة والعادات والتقاليد، وعلى الثقافة الوطنية. وهي المكونات التي تشكل جوهر الهوية. ولاشك أن الهوية هي العصب المركزي الذي يحفظ المجتمع ويضمن تماسكه، في استقراره وتغيره. والعكس صحيح، فإن أزمة الهوية تجسد طبيعة الخلل الذي أصاب المجتمع على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية كافة. لكن كيف عبرت هاتان الروايتان -في ثنايا عرضهما لطبيعة التحولات التي شهدها المجتمعان السعودي والكويتي- عن أزمة الهوية وأزمة الذات؟ وما الخطاب الدال على هذه الأزمة؟ يمكننا رصد هذه الأزمة، وطبيعة الخطاب الدال عليها في رواية «القندس»، الأزمة التي ظهرت على الكثير من المستويات: المستوى العام، والمستوى الذاتي، والمستوى الخاص. ونقصد بالمستوى العام ذلك المستوى الذي يجسد رؤية «غالب» بطل الرواية للعالم الذي يحيط به والذي تحول إلى «قندس» كبير. فأسنانه المدببة الحادة (التي تبلغ 20 سناً، 4 منها أسنان أمامية قوية منحنية للقضم و16 خلفية للمضغ) تذكره بأسنان أخته بدرية... كما أن عيناه تبدوان مثل عيني أمه «عندما أخبرها أني موشك على سفر فتستعيذ طويلًا وتحوقل». كما أن طريقة انتزاع الثمرة من يدي «تشبه طريقة انتزاع أبي ثمار الحياة انتزاعاً، وكأن نموها لا يتجدد كل سنة». كما أن يد القندس الشحيحة تذكره بيد أخيه سليمان «عندما تقبض على المال، مثل معمر جرب القحط والفاقة وليس فتى مدللًا ولد وبين يديه لعبة فيديو حديثة» (ص 6، 7). في حياة أخرى «كان جدنا الأكبر قندساً ولاشك» (ص 38). لقد أقام بطل الرواية تشابهاً بين عائلته وبين أسوأ ما في حيوان القندس من صفات تدل على التشوه الذي يبدو على جسده «المنبعج حتى بدا مثل كرة سلة مصابة بخلل مصنعي» (ص 6). لذا تبدو العائلة من وجهة نظره «قلقة وحذرة، فظة وباردة، وتفعل كل ما تفعله القنادس تماماً: عندما يقرض القلق عظامنا نقرض بقية الأشياء، وعندما نجمع بعض الحكمة نشرع في بناء السد، وعندما يعطف علينا الغرباء نسرق تمرهم وطعامهم، الشيء الوحيد الذي لا نجيده مثلها هو اهتمامنا ببعضنا رغم أننا أقمنا في بيت واحد مثلما تعيش هذه الحيوانات القارضة معاً تحت آلاف الجذوع القديمة» (ص 40- 41). ولم يتوقف أمر المشابهة بين حيوان القندس وبين العائلة هنا، لكنه تجاوز ذلك، ليتحول العالم كله إلى قندس كبير. وإذا كان هذا الخطاب يجسد لنا أزمة الهوية على المستوى العام، فإننا نقرأ هذه الأزمة على مستوى آخر هو المستوى الذاتي، ونعني به ذلك المستوى الذي يمس حياة «غالب» بطل الرواية على المستوى الشخصي. يظهر ذلك بوضوح حينما ندرك أن هذا البطل الذي وصل إلى سن الأربعين فشل في الحصول على عمل. والفشل في الحصول على عمل لا يعني فقط فشله في الحصول على مهنة أو وظيفة ثابتة، بل يعني كذلك الفشل في الحصول على عمل يحقق له ذاته، ويعبر فيه عن هويته. ويتجسد لنا خطاب الأزمة مرة ثالثة على المستوى الخاص، والذي يمس الحياة الأسرية لبطل الرواية، في طبيعة العلاقات الأسرية المفككة بين أفراد الأسرة: الطلاق بين الأب والأم، يقول: «لم تكن أمي تريد أبي ولا هو يريدها. لذلك طارت بعد إنجابي مباشرة إلى رجل آخر أنجبت منه ابناً أفضل» (ص 65). وتبدو الأزمة كذلك في علاقة البطل نفسه بالأب، الذي فقد الإحساس بالأبوة، وأصبح «يدير قلبه مثل مؤسسة»، لذا أصبح حضور أو انصراف غالب الابن «لا يغيران شيئاً لديه» (ص 72). بل إن الأب أهمل تعليمه، ولم يلحقه بالمدرسة إلا بعد حين، وكان ينشغل عنه بسفره الطويل، ويضطر الابن أن يمضي معظم الوقت مع الخادمة، وكان الأب يصحبه كذلك إلى دكانه الواسع، لكنه كان ينشغل عنه بالبيع والشراء «فإذا رآني أبي كذلك نهرني على أي شيء كان» (ص 95-96 ). وتتجسد أزمة الهوية كذلك في العلاقة المأزومة بينه وبين أمه التي تحولت زيارتها إلى طقس روتيني «فكلما زرتها أشعر بأني أؤدي دوراً رتيباً لن أجيده وتؤدي هي دوراً رتيباً حفظته عن ظهر قلب (ص 92). وبلغت هذه الأزمة ذروتها حينما ذهب ليودعها قبل سفره، وحينما قال لها: توصين شيئاً يا أمي؟ فترد عليه رداً قاسياً. (ص 37). ولعل ذلك يكشف عمق الفجوة بينه وبين أمه. وربما تكون هذه العلاقة المأزومة بينهما سبباً لتمسكه ببلاد الغربة التي لم يحقق فيها ذاته ولم يعثر فيها على هويته. وتقدم لنا رواية «ساق البامبو» للأديب الكويتي سعود السنعوسي أزمة الذات وأزمة الهوية من منظور مختلف، يتسم بالعمق والتجديد. وتتشكل أزمة الهوية في الرواية على خلفية ميلاد بطل الرواية من أم فلبينية وأب كويتي. كانت الفلبينية تعمل خادمة لدى أسرة الأب. وتعرض لنا الرواية تفاصيل هذه الأزمة في خمس مراحل من تطور حياة البطل: قبل الميلاد، وبعد الميلاد، والتيه (الاغتراب الأول)، حيث الذهاب إلى بلد الأم (الفلبين)، والتيه الثاني، حيث الذهاب إلى الكويت (بلد الأب)، والتيه الخامس، حيث العيش في بلد الأب، لكنه يعيش على هامش الوطن. وفي كل مرحلة تتخذ أزمة الهوية طابعاً أعمق وتتجسد بشكل متجدد. حيث تتجسد في مستواها الأول على مستوى اسم البطل، ذلك الاسم الذي يعبر عن هوية الشخص ويمثل مصدر فخر وانتماء، لكن بطل الرواية يحمل الكثير من الأسماء، هكذا يعلن في مفتتح الرواية: «اسمي jose كما ينطق في الفلبين، كما في الإنجليزية هوزيه، كما في الإسبانية، خوزيه. وفي البرتغالية بالحروف ذاتها يكتب، ولكنه ينطق جوزيه. أما هنا في الكويت فلا شأن لكل تلك الأسماء باسمي حيث هو... عيسى! (ص 17). وما بين تشتت الانتماء لبلد الأم وبلد الأب تتشكل مستويات أخرى من أزمة الهوية التي يصطلي بنيرانها البطل. يقول: «أنا عيسى ابن الشهيد راشد (الذي استشهد في حرب تحرير الكويت) وأنا عيسى ابن الخادمة الفلبينية! ( ص 214). ويقول: «أقف على أرض لست أعرفها، باحثاً عن أرض تأويني بين بلاد أبي وبلاد أمي!» (ص 224). وكان من الطبيعي، نتيجة لهذه الغربة وهذا التيه المستمر أن يشعر البطل باللاجدوى فيقول: «للمرة الأولى أشعر باللاجدوى. حلمي القديم... الجنة التي وعدت بها (وهي العيش في بلد الأب، حيث المال والجاه والعائلة)... سفري... المال الذي بات يفيض عن حاجتي... ماذا بعد؟ في بلاد أمي كنت لا أملك شيئاً سوى عائلة. في بلاد أبي أملك كل شيء سوى... عائلة (ص 303). وهكذا يعيش البطل عيشة مأزومة، سواء في بلد الأم، أو في بلد الأب. وتبلغ هذه الأزمة ذروتها في بلد الأب، حيث يعيش على هامش الوطن (ص 291). ويبلغ شعوره بالغربة أقصى مداه في بلد الأب. لذا يبدو الوطن، بلد الأب، بالنسبة له «حلم قديم... لم أتمكن من تحقيقه رغم وصولي إليه والسير على أرضه... حقيقة مزيفة... أو زيف حقيقي... لست أدري... هي أبي الذي أحببت.. عائلتي التي تتناقض مشاعري تجاهها... غربتي التي أكره... (ص 324). ومن الطبيعي -نتيجة لكل ذلك- أن يشعر بأن «هذا المكان ليس مكاني، وأنني كنت مخطئاً لابد حين حسبت ساق البامبو يضرب جذوره في كل مكان» (ص 283). من هنا ندرك دلالة عنوان الرواية «ساق البامبو» حيث تنمو هذه الشجرة، التي لا انتماء لها، بمجرد أن نقطع جزءاً من ساقها ونغرسه بلا جذور في أي أرض ولا تلبث الساق طويلًا حتى تنبت لها جذور جديدة، وتنمو من جديد في أرض جديدة بلا ماض وبلا ذاكرة. لكن الإنسان، على العكس من ذلك لابد أن ينمو ويتشكل أصله وانتماؤه على أسس وجذور راسخة تزكيها العائلة واللغة والدين والعادات والتقاليد. تلك الأسس التي فشل في الإحساس بها بطل الرواية. لذا نجده مشتت العقل والوجدان، حيث لا يعرف هل هو مسلم أم مسيحي أم بوذي. «أهملت والدتي تربيتي دينياً، على يقين بأن الإسلام ينتظرني مستقبلًا في بلاد أبي. ورغم أن أبي همس بنداء صلاة المسلمين في أذني اليمنى، في المستشفى بعد مولدي، فإن ذلك لم يمنع والدتي، فور وصولنا، من أن تحملني إلى كنيسة الحي الصغيرة ليتم تغطيسي في الماء المقدس في طقوس تعميدي مسيحياً كاثوليكياً (ص 62). وتستمر أزمة البطل في البحث عن دين، حيث يتساءل تساؤل الملهوف: «هل يجعل مني التعميد مسيحياً، وهل قبلت بالمسيحية ديناً في طقس حضرته في حين كانت ذاكرتي لا تتسع لشيء بعد؟.. أتراني بوذياً من دون أن أعلم؟ وماذا عن إيماني بوجود إله واحد لا يشاركه أحد... صمد لم يلد ولم يولد؟ أمسلم أنا من دون اختيار؟ ويتضافر الإحساس بالأزمة والاغتراب على المستوى الديني مع الأزمة على مستوى الاسم الذي يجسد هوية الشخص وانتماءه، مع الاغتراب والأزمة في الفشل في الانتماء لوطن. ويبدو أن هذه الأزمة ثلاثية الأبعاد ستظل قدراً لانهائياً يلازم البطل طوال حياته: «إنه قدري، أن أقضي عمري باحثاً عن اسم ودين ووطن» (ص 65، 66). وهكذا تجسد لنا رواية ساق البامبو أزمة الهوية، من منظور مختلف يتسم بالعمق والتجديد. وعلى وجه الإجمال تجسد لنا الروايات الست التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة «البوكر»، في نسختها العربية، أزمة الذات وأزمة الهوية التي تتشكل على خلفية التحولات التي تمر بها مختلف البلدان العربية. تلك الأزمة التي حكمت مصائر الشخصيات ورؤيتها للعالم الذي تعيش فيه، وأنماط تفاعلاتها مع هذا العالم. كذلك ظهرت هذه الأزمة على المستوى الذاتي لهذه الشخصيات، والذي يمس خصائصها الذاتية، وعلى المستوى الخاص الذي يمس طبيعة العلاقة بين هذه الشخصيات ومحيطها العائلي. فهل يمكن القول إن الآفاق التي وصل إليها الإبداع العربي، في مجال الرواية تعد آفاقاً مأزومةً؟ وكيف السبيل للخروج من هذه الآفاق المأزومة؟ ربما تكون لنا وقفة مع هذه القضية في مقال قادم بإذن الله تعالى.