أرسل لي أحدهم يسأل: هل هناك حقيقة مطلقة؟ ومتى يكون فعل الصواب شيئاً خاطئاً؟ وما هو الصواب؟ وكان جوابي عليه «لقد أصبحت فيلسوفاً، فما ذكرت يجعلك تترقى في كمالات لانهاية لها، والفرق بين الفيلسوف والنبي، أن الثاني يصبر على ترهات الناس، ويمشي في الأسواق، ويأكل الطعام، وكان ربك قديراً. والفلسفة رعب ودخول كهف الشك، حتى الخروج من هذا النفق إلى ضوء اليقين. وتعتبر الفلسفة في نظر البعض مصدر إزعاج، وللبعض الآخر مصدر تهديد للعقيدة؟ ولكنها عند آخرين مصدر متعة من دون حدود، لأنها تأخذه إلى عوالم سحرية، لا تكف عن إدخال الجديد والمفيد إلى العقل. ومن نهض بالعقل في التاريخ هم بضع مئات من أدمغة الفلاسفة، وحسب «برتراند راسل» الفيلسوف البريطاني في كتابه (النظرة العلمية)، فإن عصر النهضة كله يعود إلى مائة دماغ أو يزيدون، ولو تم اغتيالهم أو القضاء عليهم لما كان هناك نهضة وناهضون. ويمكن النظر إلى الفلسفة أنها رحم العلوم، وإذا نظرنا إلى علاقة العلم بالفلسفة؛ لقلنا إن جذورها الميتافيزيقيا، وجذعها فلسفة العلوم، وثمراتها العلوم من رياضيات وفيزياء وعلم فلك وكيمياء وتاريخ. ولا يتقدم العلم دون أرضية راسخة من حرية الفكر الفلسفية، لأن الفلسفة فتح للعقل على كل أنواع الأسئلة المزعجة والمحرجة من دون حدود وخوف. ولم يكن للحضارة الإسلامية أن تنهض، لولا اتصالها بالفكر اليوناني، كما قررّ ذلك عبد الرحمن البدوي في سيرته الذاتية، ولن ننهض اليوم إذا لم نتصل بالفكر الفلسفي العالمي، وهي مسافة خمسة قرون. ونحن ما زلنا في استراحة المماليك البرجية أيام السلطان قلاوون الألفي قبل ألف سنة. والفكر الفلسفي يجب أخذه مفصولاً عن التاريخ الاستعماري، ويجب رؤية أميركا بمنظار الفلاسفة «الإنسانيين» مثل «كارل بوبر» و«ويل ديورانت» و«إيراسموس» و «سبينوزا» و«شوبنهاور»، وليس بوش المحارب؛ فالفلاسفة والمفكرون آباؤهم واحد وثقافاتهم شتى... لا وطن لهم وهم إنسانيون. أما نحن فمأساتنا كبيرة ولا نعرف، مثل من يتحدث عن جده الملياردير وهو مفلس خالي الوفاض. ويعتبر نيتشه ضوءاً باهراً في الفلسفة ممن بحثوا عن الحقيقة بأي كلفة. فاعتبر أن من أراد أن يرتاح فليعتقد، ومن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل. و(سقراط) يعد فلتة عقلية في التاريخ، مثل الطفرة في البيولوجيا لإنتاج كائنات أعظم رقياً، وكان كذلك، وأعظم شيء في فلسفته أنه يرى أن الفلسفة لا تجيب عن الأسئلة، بقدر فتح الباب على أسئلة جديدة، مما يشكل زاوية منفرجة للمعرفة لا تكف عن الاتساع. وفي الغرب يعطون لقب فيلسوف لمن يحصل على الدكتوراه في العلوم، ولكن لا ينتبه أحد لهذا اللقب (PhD). ويقول «برتراند راسل» إن الفلسفة منطقة لا اسم لها تترجرج بين الثيولوجيا والعلم ومعرضة للهجوم من الجانبين. ويقولون في تعريف الفيلسوف إنه ذلك النهم للمعرفة، الذي تغشاه روح الطفولة، ولا تفارقه روح الدهشة، وفضولية الطفل وحبه اللعب والإصغاء ولو لفلاح جاهل، مع نسيان النفس، وتأمل كل قديم بنظرة جديدة؛ فالجدة لا تفارقه، والعجب لا يغادره.