إن تراجع النفوذ القومي الأميركي هو اختيار، ويبدو أن أميركا بصدد القيام بهذا الاختيار. فما يسميه ممارسو السياسة الخارجية «تلاطم» الأحداث، أخذ يبدو كفوضى عارمة، فمصر تترنح بين تأسيس نظام ديمقراطي وإعادة الخلافة، وسوريا تتلاشى كدولة منظمة وربما كواقع جغرافي أيضاً، وإيران باتت على وشك امتلاك القنبلة النووية وتعمل على إشعال سباق تسلح نووي طائفي، وكوريا الشمالية تواصل تجاربها النووية والصاروخية. وتحت هذا كله توجد بعض الاتجاهات الكبرى: تضافر الركود الاقتصادي، وازدياد عدد الشباب، وشعور تاريخي بالظلم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي آسيا، الانتكاس السريع لـ250 عاماً من الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية الغربية، مما يثير أسئلة بشأن الهيمنة العسكرية لأميركا مستقبلا. وبشكل عام، يبدو أن هذه التحديات تتطلب انخراطاً أميركياً موسعاً ومطوراً لصياغة بيئة اقتصادية وأمنية مواتية لمصالحنا على المدى الطويل. لكن، هل تصبح أي من هذه المشكلات أكثر سهولة مع مرور الوقت وعدم الاهتمام؟ لنتأمل الرد الأميركي: فوضى في الميزانية، وتخفيضات في الإنفاق العسكري، وتشكيك أيديولوجي في الذات، وإشارات متضاربة من القيادة. لكن تخفيض ميزانية الجيش الأميركي شكل تطوراً جيوسياسياً مذهلا. والواقع أن تخفيضات في الدفاع بهذا الحجم واللاعقلانية كان يفترض أنها غير مقبولة بالنسبة للجمهوريين، إلى أن قبلوها باحتجاجات محدودة. كما أن القائد الأعلى للقوات، والذي يدعم خليطاً مختلفاً من تخفيضات الإنفاق العسكرية، لم يبد مستاءً كذلك. والقادة العسكريون أخذوا يتوقعون تدهوراً خطيراً للقدرات. وفي هذه الأثناء، بدأ السياسيون نقاشاً أيديولوجياً حول الدور العالمي لأميركا. وعلى ما يبدو، فإن عناصر على اليمين واليسار تعتقد أن خفض الموارد العسكرية سيحد من التدخلات الأميركية مستقبلا. وقد يكون ذلك صحيحاً بالنسبة لبلد أوروبي، لكن بالنسبة لأميركا، فالأمور لا تجري على هذا النحو. ذلك أن تقييد الموارد يعني أن التدخلات، عندما تكون ضرورية، تأتي في وقت لاحق، وتحت ظروف أقل مواتاة، ومن موقف أضعف. وفي عدة مناطق من العالم، بدأ تضافر التطورات المالية والأيديولوجية يخلق انطباعاً بالتراجع. صحيح أن الولايات المتحدة مازالت قوية بشكل عام؛ لكن الاتجاه هو نحو الانفصال والابتعاد. وهذا يمكن أن يغير الحسابات الاستراتيجية لدول أخرى. وإذا كنتَ الحكومة الصينية، مثلا، فلماذا لا تختبر أميركا قليلا حول حماية حقوق الملكية، أو حتى في مناطق متنازع عليها في بحر جنوب الصين؟ وإذا كنتَ النظام الإيراني، فقد تتساءل ما إن كان الخط الأحمر النووي لأميركا أحمر حقاً. هذا بينما يبحث الزعماء الروس دائماً عن فراغات في السلطة لسدها. وحتى إذا كانت الشكوك بخصوص الإرادة الأميركية خاطئة، فإننا نجعلها تبدو صحيحة. إن دولة راكدة اقتصادياً، ومثقلة بالديون، ومشلولة سياسياً، ومتقشفة عسكرياً، وحائرة بشأن دورها العالمي. لن تصبح أكثر أماناً وسط هذا الخضم. ثم إن هذه الاتجاهات تغذي أحلام منافسينا في إعادة اصطفاف عالمي؛ وهو ما يستدعي تحديات كان يمكننا تجنبها. إنه إغراء أميركي تقليدي؛ فبينما تتلاشى ذكريات «ميونيخ» و «حصار برلين» و«الـ11 من سبتمر»، تبدو المواضيع الداخلية رئيسية ومهمة، ويبدو العالم بعيداً. والحال أن ذكريات العالم مازالت تتجمع، غير مبالية بمزاجنا الحالي. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»