لا يحمل «قصر الحصن» الذي يتوسط قلب أبوظبي تاريخ أسرة «آل نهيان» وقصة الحكم في الإمارة فقط، إنه يحمل أكثر من ذلك حكاية الخليج وبلدانه والشخصيات التي صنعت الأحداث، أو الأحداث التي فرضت واقعاً ومتغيرات جديدة في سير هذه الدول. حكايا الصراع والمصالح والحروب والتحالفات وطبائع الإنجليز وسياساتهم ومؤامراتهم. دول بادت وأمراء برزوا وغيرهم تلاشى حكمه سريعاً في منطقة يتنازعها فقر مدقع وأمية طاغية وموقع استراتيجي تتكالب عليه مصالح ودول استعمارية عديدة. جميعهم مر على أمراء القصر يطلب كسب الود أو النجدة، أو الوساطة أو محاولة تحييدهم في الحروب الفرعية. قصر الحصن شهد كل هذا التاريخ الموغل في المتغيرات ومفاجآت المنطقة آنذاك، وقف صاداً لأمواج البحر المتلاطمة، منيعاً أمام جوع الرمال المتحركة. كان عجيباً ساحراً في هندسته وبنيانه دلالة على حجم ومكانة هذه (الدولة الجديدة) وإرادتها، ضخماً واسعاً يراه القادم من بعيد، فهو الأكبر والبيت الوحيد المبني من الجص والطين، عليه قلاع منيعة تحرسه من كل الجوانب، لا ترى قربه سوى بيوت الشعر والخيام ومنازل "العرش" ومنظر قوافل الإبل ومراكب الصيد البدائية والسوق الذي تغطيه "دعون" سعف النخيل وقطع القماش، التي أكلت الشمس أطرافها ومزقت بقاياها الرياح، فهكذا كانت الحياة في مجتمع أبوظبي، لكن في ذلك الزمن، زمن العطش كان حكامه يجلبون الماء العذب من أراض وواحات بعيدة يسقون شعبهم، كانوا يأوون الجائع والمستجير والمظلوم في أزمنة الفقر والخوف وأشباح الحروب والمنازعات. كان القصر مسكناً للحاكم وأسرته، وهو ديوان الحكم، ومجلس الشيخ يبرز فيه لضيوفه، ويتحول ذلك المبنى في أزمنة الغارات والكوارث إلى بيت كبير يحمي جميع أهالي أبوظبي تسد أبوابه ولا تستطيع أية قوة في زمنها من الوصول إليه أو اختراقه. لهذا كانت أعظم صورة تلك التي تبين القوافل، وهي تتجه نحو «القصر المهيب» كما أطلقوا عليه، وأقدم صورة وصلتنا كانت للشيخ زايد الأول يجلس وسط جماعته في ظل جدار القصر، وصورة المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في شبابه «بالكوت» والخنجر متكئاً على عصاه وخلفه القصر ونظرته إلى البعيد. كتاب «قصر الحصن» لمؤلفتيه الدكتورة «جوينتي مايترا» و«عفراء الحجي» يروي تلك الملحمة، كيف أن هذا القصر ظل شاهداً على تلك التحوّلات يروي تاريخ حكام أبوظبي في الفترة:من عام 1793- 1966، ليتوقف الكتاب عند هذا المفصل، ويبدأ بعدها عصر آخر من التاريخ بطله المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه. قامت حياة جديدة، إنه عصر ما بعد تدفق النفط، الذي صنع أشياء وأحدث تحولات عديدة في المكان وحياة الإنسان: الأمن والاستقرار، التعليم الأفضل، الصحة، السكن، الوظيفة، رغد العيش ورفاهية العصر، وحكمة (صناعة الرجال) وتمكينهم لبناء الدولة، كما آمن بها وأطلقها وجعلها غاية رحمه الله. انحسر البحر مرات عديدة وكبر"الكورنيش" وتزين مرات ومرات وقامت أبراج ومعالم مدنية عصرية خطط لها ورسمها أشهر المصممين المعماريين في العالم، لكن قصر الحصن ظل مكانه، في القلب يحرس المدينة وشاهداً على العصر، ولا أعلم هل هي مصادفة أو أمر كان مخططاً له أن يكون «المجمع الثقافي» الذي كان قبلة الأدباء والشعراء والمثقفين العرب عموماً خلال مرحلة الثمانينيات في محيط القصر مجاوراً له. وأن يحتضن هذا القصر كذلك مركز الوثائق والبحوث حتى نهاية التسعينيات، المركز الذي يعد المرجع الأول لتاريخ الإمارات وواحداً من أهم الدور الوثائقية المتخصصة في تاريخ المنطقة. ومع نهاية الشهر الحالي، تنطلق مرحلة جديدة يكون القصر بطلها من جديد وذلك من خلال مهرجان يحمل اسم المكان العلم، يروي في عمل فني حكاية الوطن و250 عاماً من الشموخ والعز والعمل المتواصل وهي عمر هذا المبنى. هذا المهرجان الذي يحمل طابعاً تراثياً ثقافياً وسياحياً يأتي في وقته، ليرسخ حضارة وتاريخ هذا الوطن ورجالاته، ويعرّف بمكانة القصر الأبيض عند جيل جديد وزائر غريب، ستعود الحياة من جديد لهذا المعْلَمِ العَلَم، الذي انتظر الناس أن يزاح عنه الستار الفني من رسومات وخطوط ولوحات فنية كانت تلفه في السنوات الأخيرة. قد تبدو عاصمة الإمارات أكثر مدن المنطقة محافظة على المعالم والأبنية الرئيسية التي شيّدت في مرحلة الستينيات وقيام الاتحاد بداية السبعينيات، وهذه الرموز المكانية تمثّل اليوم تراثاً وذاكرة وأيضاً مؤشراً زمنياً ومعمارياً على مسيرة بناء الدولة وإنجازاتها وتطور المدينة. وقبل أعوام قريبة أعلن عن مبادرة رائدة في مجالها لصون وحماية المباني، التي هي معالم مراحل بناء أبوظبي مثل: قصر المنهل، جسر المقطع، مجمع أدنوك على الكورنيش، نادي ضباط القوات المسلحة، فنادق الانتركونتيننتال والهيلتون والميرديان، مبنى المحكمة، مدينة زايد الرياضية، وأيضاً نماذج من المباني المنخفضة والقديمة كالمساكن الشعبية والاستراحات على الطريق من العاصمة إلى العين أو ليوا. أفراد المجتمع الذين عاشوا تلك المراحل يشعرون بحنين وألفة مع هذه الصروح... إنها جزء جميل من حياتهم وامتداد لذكرياتهم وتبين حجم الأحلام التي سكنت ذلك الجيل وهو يخطط ويرسم ويفكر ويبني تلك المعالم الضخمة والمتطورة كثيراً في زمنها. تاريخ هذه الأماكن وجماليات ذلك البناء العمراني والبصمات الفنية التي تميزت بها تستحق أن تصور وترسم وتشرح ويكتب عنها الكثير، لأنها تمثل هوية هذا البلد وطموح أهله، من المهم أيضاً أن نقبض على ما تبقى من مباني مرحلة السبعينيات في مختلف مناطق الدولة سواء كانت مساكن شعبية أو أبنية حكومية أو أسواق، أو أشكال فنية في الدوارات أو الجسور أو حتى الحدائق أو المكتبات أو مجالس لشخصيات مجتمعية بارزة، فهذه اليوم معالم نهضة الإمارات، وهي تراث وآثار خالدة ومهمة بالنسبة للجيل الجديد، لأنها تعني قصة الدولة ومسيرة حياة إنسان هذا الوطن.