مما ينسب الى عالم الكائنات الحية داروين ، بعد أن درس الكائنات الحية الأقوى والتي تمكنت من مواجهة وعثاء السفر وطول طريق الحياة، قوله: لم تكن الكائنات الذكية بل هي الأكثر قابلية على التكيف · إذاً فالذكاء مطلوب لكن بقدر، أو بلغة أخرى ليس هو العامل الأساس للبقاء بل هناك قدرات أخرى أهمها القدرة على التكيف· فماذا يقصد بذلك؟ هل المقصود النفاق الاجتماعي كما يرى البعض أو المقصود التنازل عن الثوابت في المعتقد أو التشريع، أم أن هذه القدرة تدفعنا إلى فقد الأمل في الانتصار المرتقب على التحديات التي تواجه الأمة، أم أننا نتحدث عن نوع جديد من طرق التفكير التي تدعو صاحبها إلى التلون والتملق كما هو حال الجو الثقافي المحيط به هذا الذكاء والذي يجعله ضائعا في عالم لا متناهٍ من الأفكار والأحزاب والسياسات وغير تلك الأمور· لعلي بهذه المقدمة أثرت فضول القارئ الكريم للتفاكر معي حول مقولة داروين الذي ربما لم يقصد بتاتاً ما سأذهب إليه وعندها يصدق فينا قول العربي:
أنام ملء جفوني عن شواردها·· ويسهر الخلق جراها ويختصم·
عادة ما يعيش الناس في أي مجتمع بين فئتين من البشر الاولى تلتصق بالجذور ظنا منها أن الماضي هو ما سيقودنا الى المستقبل واخرى تنفصل عن تلك الجذور لاعتقاد منها ان تقدم الأمم إنما يتم باستنساخ ما عليه الدول المتقدمة وكلا الحزبين في تصوري جاوز الصواب· فالماضي، كل الماضي لن نجد فيه ما نريد، وما وصلت إليه البشرية اليوم فيه ما نحب وما نكره، وقد طرحت على طلابي في الجامعة مثل هذا السؤال: هل نخطط لتربيتنا بالاعتماد على الماضي الذي به انتصاراتنا أم الحاضر الذي لابد أن نعرفه كي نتعايش معه أم المستقبل الذي ينتظرنا؟ فانقسم الناس في الفصل الى ماضويين يرون أنه لا عز لنا إلا بالرجوع الى ماضينا والبحث عن أسرار ذلك الماضي حتى نتفاعل معها ومن ثم ننتصر· أما الواقعيون فرأوا من الأفضل لنا أن ننظر إلى واقعنا لنرى جوانب القوة والضعف فيه ومن ثم نبني على هذا الواقع· أما المستقبليون فعندهم وجهة نظر أخرى مفادها أننا تعلقنا أكثر من اللازم بالماضي والحاضر ومن الافضل البحث في المستقبل· للخروج من هذا الخلاف سقت لهم مقولة أحفظها وأعيشها كما يتعامل بها كل من يقود مركبة في طريق، مفادها أن سائق السيارة الأحمق هو من يقودها وهو ينظر في المرآة العاكسة طوال الوقت ليرى ما فات ولذا فلا شك أنه سيقع في العديد من الحوادث· والأمر صحيح لمن يقود المركبة وعينه في المرآة الجانبية والتي يحدد خلالها الواقع الذي يقود فيه وهو على خطر لأنه أهمل مستقبل الطريق وماضيه· والأكثر حمقا في تصوري هو من يقود السيارة وهي لا تحتوي على مرآة جانبية يرى خلالها الواقع أو أخرى يرى ما مضى من طريق لا شك عندها أنه سيفاجأ بسائق متهور يأتيه من ماضي الطريق أو أحمق يمضي بجانبه ليحول بينه وبين المستقبل· العاقل هو من زود سيارته بمرايا يلحظ منها الماضي ليتعلم منه والعرب تقول:
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر·· ضل قوم ليس يدرون الخبر
فمهم جداً ان يكون لنا تاريخ نتعلم منه لكن الأهم أن ننظر دائما بروح المستقبل فلا نكتفي باستشرافه لمعرفة أسراره بل نصنعه· والأمر يتطلب قدرة على تكييف العديد من الأمور في حياتنا لتمكننا من النجاح· فمثلا نكيف سياسة الناس فلو أردنا قيادتهم بأسلوب الخلافة الراشدة للزم الأمر البحث عن صحابة لنحكمهم كما قال معاوية رضي الله عنه يوما لمن طالب بالحكم كما كان في عهد الصديق رضي الله عنه· ومهم جدا تكييف الاقتصاد بما يجعله ناجحا في اقتصادات السوق الحرة· وفي التعليم لا بد من إعادة تكيفه بما يتناسب مع عالم المعرفة المتجددة وإلا فإننا سنخرّج أجيالا من الفاشلين· وعلى الصعيد الشخصي مهم جدا تكييف الذات لتتماشى مع بشر يعيشون مستقبلاً يختلف في متطلباته عن أجدادنا، كل هذه الأمور وغيرها تتطلب فقها شرعيا متجددا وإلا أصبح الفقه حابسا لنا دون التقدم الذي لا يتطلب منا تجاوز الثوابت في حياتنا الشرعية، فهل عندنا هذه القدرة؟