صورة (الجندي) في مختلف الثقافات ارتبطت بالانضباط والشدة والنبل، ودائماً ما نتخيل معها مجد النجوم ومغزى الأوسمة وقيمتها المعنوية، هي كذلك مرادفة للوطن والتضحية، إنها أيضاً في معاني الولاء للقيادة. لهذا كان مثوى (الجندي المجهول) قبراً يزار، تحرص كثير من الدول أن يكون مقرراً على جدول زيارات رؤساء الدول وكبار ضيوف الشرف، ودائماً ما تكون أكاليل الورد ورسائل الحب حاضرة عند هذا النصب الخالد، تُشعِر الشعب بالحزن وكذلك تغذيه بالكبرياء، يذكّرها هذا المعلم أنها أمة لها تاريخ وعندها أبطال، تتذكر قسوة الحرب وعندها يُذكر الجندي، ويُذكر السلام ونتذكر حكايات التضحية والفداء. يعزف السلام ويرتفع العلم ونناظر وقفة الجندي ويده المضمومة على صدره أو كفه التي تلوح بالسلام أمام جبين يتطلع إلى الأمام تبرز فيه عين لا ترف، ترقب السارية ونغم يخرج من الأعماق يردد نشيد الوطن. لهذا كانت الجندية ولا تزال حلماً وأمنية، تراود الكثيرين، ليس لأنها مجرد وظيفة ومزايا، لكن للمعاني والقيم التي تزرعها في شخصية الإنسان. كان ذلك الذي رحل قبل أيام، أحد الذين عشقوا هذا العالم واختار أن يسير فيه حتى أتعبه المسير، حلم منذ صغره أن يكون جندياً، لهذا عندما أنهى المرحلة الثانوية، وكان ذلك قبل ربع قرن تقريباً اختار أن يكون جندياً، فعل واستمر في طريقه، لاقته صعاب واختلطت عليه دروب، صبر، توجع، تغرب، وفاتت عليه محطات، لكنه ظل يحلم واستمر وفياً لحبه:أن يكون جندياً في خدمة بلاده. قبل سنوات قريبة، أصابته الحياة في والده الذي مات فجأة، وفي أسرته، أطفاله الذين كبروا وهو بعيد عنهم، قرر أن يترجل ويترك حلم القطار، الذي تمنى كثيراً أن يسير فيه حتى المحطة الأخيرة، طلب مكرها أن يتقاعد، يتفرغ لمقابلة بيته الصغير. عاد لهم، لتستقبله أسرته والحياة الجديدة التي فتحت ذراعيها له بأبواب ومتطلبات ومشاغل وهموم تكبر، ولا تتوقف حملها كما تحمّل أثقل منها فيما مر، فما يزال في سن الأربعين والعمر أمامه ورياح الشباب تدفعه لمزيد من الجهد والعطاء. لكن أوجعته عينه فجأة، لماذا عينه لا أدري؟ قل نظرها كثيراً، سعى في علاجها، لحقتها الأخرى سريعاً. لف العالم يبحث عن خبير متخصص، دواء يشفي ولو واحدة. فرح عندما وجده أخيراً . في يوم موعد العملية الذي جلس ينتظره شهراً من العمر صابراً، كله لوعة وحنين لأهله وبيته. أخيراً حان الموعد، ذهب للطبيب مطمئناً فرحاً منتظراً أن يعود له بصره، صام ليلتها، سلّم عليهم، داعب من كان قربه، مشى عنهم، سقط بينهم، صرخ، استيقظ، ابتسم، لكنه لم يدخل الغرفة، لم يقترب منه مشرط الطبيب، لم يذق ويلات غيبوبة الجراحة لقد مات في الطريق. طوال فترة تقاعده، لم ينس لحظة أنه جندي في خدمة بلاده حتى وهو بعيد عن الميدان. قبل عام عندما كانت محاولات التشكيك، كان أول من أحضر الورقة في منطقته، كتب وثيقة الولاء للقيادة، وقّع عليها وذهب يبحث عن أفراد قبيلته، سعى طويلًا وهو يحاول الوصول إلى الجميع في مواقعهم المتفرقة وبيئات أعمالهم المتباعدة، وعندما اطمأن لحضورهم وتأكد أن بصماتهم موجودة، استأذنهم أن يأخذ نسخة من الوثيقة، قال لهم أريد أن احتفظ بها لأسرتي وأحفادي. قبل أن يغادر مدينته كان يكثر كعادته من اختلاق المناسبات، يريد أن يرى أناسه في كل حين يأنس لقربهم، وكان كثيراً ما يعتني في تلك الجلسات بالشباب الصغار من أبناء فريجه يسمع لهم، ويوصيهم بالولاء ومحبة الوطن، فهذا هو الأهم والأغلى، وهو الذي سيبقى: اخلصوا لوطنكم أينما تكونوا، هكذا كان يقول لهم، لهذا عاشوا وجع موته وستبقى حسرة فراقه غصة لا تفارقهم، لكن كلماته لن تغادرهم أبداً لأنها عن الوطن الذي يحبونه، ولأنها من رجل يسكن قلوبهم. جندي في خدمة بلاده، ترجل سريعاً، قدره أن يرحل شاباً اسمه: راشد خلفان بن مترف الطنيجي. وفي هذا الوطن جنود كثيرون مثله، لا نشعر بهم، وقد لا نعرفهم، لكنهم يحرسون هذا الوطن، يعيشون ويموتون وهم يحبونه، لا يتخلون عن خدمته والولاء له. ننام مطمئنين، وهم لا تنام لهم عين، كلهم حذر وقلق وترقب، فهاجس أمن الوطن يجعلهم على أهبة الاستعداد لأي طارئ، ويعلمون جيداً أن أرواحهم هي أول ما يمكن أن يقدموه فداء وحماية لهذه الأرض. اليوم ... كم من الطائرات يهبط مطارات الدولة كل ساعة، كم باخرة تتحرك في مياهنا الإقليمية، وكم قافلة تسير نحو الحدود، كم حجم خزانات الوقود وأساطيل البضائع التي تخرج من هنا، كم حجم البشر الذين يدخلون عندنا، وما هي ثقافاتهم ولغاتهم، وما هي «النوايا» التي تسكن دواخلهم، وماذا عن الذين يعيشون في هذا المجتمع والمتغيرات التي تطرأ، عن النظام اليومي، وكيف تدور عجلة الحياة في بقاع الوطن المختلفة؟ ماذا عن قضايا المخدرات؟ ماذا عن جرائم القتل؟ ماذا عن المتسللين والمخالفين؟ ماذا عن السرقات؟ ماذا عن أفعال السحر والشعوذة؟ ماذا عن العصابات؟ ماذا عن حوادث المرور؟ ماذا عن جرائم الخدم؟ ماذا عن: النفوس المريضة التي يمكن أن تُشترى، ماذا عن أجندات دول وحكومات ومنظمات وجماعات لا تريد لغيرها سوى الشر؟ على الجندي أن يحرس ويراقب ويحذر كل هذا. ماذا لو غفلت عين هذا الجندي لحظة، مجرد لحظة واحدة. كيف سنعيش نحن جميعاً، كيف سيستقر الوطن؟ هل سيستمر نعيم التجارة والاقتصاد وحركة المال والسياحة، ورفاهية الحياة، هل يمكننا أن ننام بهدوء في بيوت مفتوحة وننزل الشارع ونمشي بالأسواق في كل الأوقات، ولا نخاف على أطفالنا عندما يتوجهون إلى مدارسهم أو يلعبون في الأحياء من (أولاد الحرام) وتجار الممنوعات؟ لنقرأ واقع حال الدول التي ابتليت وغادرها الاستقرار، لنتعرف كيف هي صورة الأوطان عندما تفرّط في أمنها!