فيما كنت أتابع فيلم «البؤساء» ليلة عيد الميلاد والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الفرنسي الكبير «فيكتور هوجو»، قلت لنفسي إني لن أتمكن أبداً بعد ذلك من إقناع إبني المراهقين من حضور فيلم معي مرة أخرى، وذلك بسبب البكاء وذرف الدموع الغزيرة على نحو محرج -كما حدث أثناء العديد من اللقطات المؤثرة في الفيلم- حزناً على معاناة وهمية لشخصيات خيالية يقوم بها ممثلون يتقاضون أموالاً طائلة، وهو موقف يحتاج إلى تبرير. اللوم في ذلك لا يجب أن يوجه إليّ وإنما إلى البيولوجيا حيث أثبتت الأبحاث أن هناك أساساً عصبياً كيماوياً للتقمص الوجداني، أي مشاركة الآخرين مشاعرهم؛ كما أن الدموع العاطفية عادة ما يكون لها تركيب كيميائي مختلف عن الدموع التي ترطب أعيننا. وقد أثبت العلم أن الدموع العاطفية تقتصر على الإنسان فقط، ولا يشاركه فيها أي جنس آخر. وإظهار الضعف على ما يبدو، يخدم الهدف التطوري المتعلق ببناء مجتمعات تقوم على التعاون والتكافل. فنحن نميل إلى مساعدة الضعفاء متى ما طلبوا منا المساعدة أو اعتقدنا أنهم بحاجة إليها. لقد ظلت رواية البؤساء لـ«هيجو» تجتذب القراء والمشاهدين لما يقرب من 150 عاماً بسبب رفضها لللامبالاة وعدم الإكتراث بآلام ومعاناة الآخرين. وفي الوقت الذي ركزت فيه العديد من الروايات العظيمة في تاريخ الأدب على العدمية، فإن «هيجو» ركز في روايته على المعاناة الإنسانية، وما تزخر به الحياة من مشاعر السوقية، والعطف، والرحمة، والثورة، والعبادة، والتضحية بالنفس، حيث يمكن القول إنه قدم فيها تلخيصاً شاملاً للحياة. وجزء من رسالة «هوجو» في التقمص الوجداني، سياسي بالأساس. فهو يدعو للاهتمام بالناس خاصة النساء الفقيرات واليتامى الذين يبدون كما جاء في الرواية «وكأنهم يعيشون على ظهر كوكب أكثر بعداً بكثير من الشمس منا». وعندما آوى «هوجو» (في الحقيقة وليس في الرواية) لاجئين من كوميونة باريس عام 1871 أحاط جمع محافظ ببيته وهم يهتفون: «الموت لجان فالجان» (الشخصية الرئيسية في رواية البؤساء). هذه هي الأبعاد الحقيقية التي يمكن أن تكتسبها شخصية روائية خيالية، حتى لتغدو شبيهة بالشخصيات الحقيقية المكونة من لحم ودم. لكن الغرض الأساسي من رواية البؤساء؛ كما يقول الكاتب «ماريو فارجاس ليوسا» هو «إظهار وجود حياة متسامية تعتبر الحياة الأرضية مجرد جزء عابر». وهناك سبب يجعل القصص العظيمة تستمر في تنشيط غددنا الدمعية. هذا السبب يكمن في الأمل الذي يراودنا بأن الحياة ليست إلا رواية، وأن كل المعاناة، والسوقية، والرحمة، والتضحية التي نراها فيها ليست شيئاً جديداً وسوف تنتهي كما تنتهي عادة في الروايات ليجازى أصحابها ويكافأون كل واحد حسب عمله. لذلك آمل أن يتمكن إبناي يوماً ما، من فهم أن هناك الكثير مما يمكن تعلمه من الحياة المتخيلة؛ وأن يكتشفا، كما فعل« فالجان» نفسه في نهاية « البؤساء»، أنه لا يكاد يوجد شيء في هذا العالم يساوي حبنا لبعضنا بعضاً، وهو اكتشاف يستحق أن نذرف من أجله الدموع... أليس كذلك؟! مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»