سيتجادل قادة الفكر فيما إذا كان الاقتصاد وليد السياسة أم أن السياسة بنت الاقتصاد. ورغم أن النزاع السياسي والصراع الدستوري أفرزا ما أفرزا من أجواء الشك والتشاؤم حول مصير الاقتصاد المصري بعد ثورة 25 يناير 2011، فإن «الإخوان المسلمين» يؤكدون أن اقتصاد مصر قوي، وما يثار ضده مجرد حرب ضد «مصر الجديدة». وقال القيادي في الجماعة، عصام العريان، «الكارهون لمصر الحديثة الديمقراطية الدستورية بدأوا معركة الاقتصاد فور إقرار الدستور، وقبل إعلان النتيجة». وعلى صعيد آخر، شهد مطار القاهرة الدولي قبل أيام، وصول 50 مليون دولار قادمة من سويسرا لمصلحة أحد البنوك الوطنية، كما وصلت 30 مليون دولار لمصلحة بنك القاهرة، بينما استقبل المطار في اليوم نفسه 45 مليون دولار لبنوك أخرى. فلعل الهدوء والاستقرار عادا إلى مصر بعد التصويت على الدستور وإقراره. غير أن مصر حظرت على المسافرين من وإلى البلاد حمل مبلغ يزيد عن عشرة آلاف دولار، إذ يخشى المسؤولون «من تزايد الضغوط على العملة المحلية وإقبال المصريين على سحب مدخراتهم من البنوك». وإذا انتشرت المضاربات بين الدولار والجنيه المصري، فقد يحدث ذعر في السوق، مما ينبئ بمؤشرات خطيرة، حيث يقال إن ثمة عجزاً في السيولة الدولارية، والاحتياطي لن يغطي سوى ثلاثة أشهر من الواردات السلعية. وطالب المسؤولون الجميع بالعودة إلى العمل والإنتاج، خاصة بعد أن أعلن البنك المركزي أنه لم يعد قادراً على التدخل في سوق الصرف لوقف هبوط الجنيه أمام الدولار. وبينما أشار بعض الخبراء إلى عجز الموازنة العامة، أكد البعض الآخر أن لدى مصر إيرادات ثابتة من رسوم عبور قناة السويس وإيرادات البترول والسياحة، كما أن لها في الاحتياطي النقدي مبلغ 15 مليار دولار مقابل ديون خارجية بنحو 3,3 مليار دولار. وعلى الصعيد السياسي حُسمت معركة الدستور، حيث تبينت موافقة نحو 64 في المئة من المشاركين في التصويت، مقابل رفض 36 في المئة، بينما أكدت «جبهة الإنقاذ الوطني» المعارضة أنها «ستواصل النضال السلمي لإسقاط الدستور»، من خلال الاستحقاقات السياسية القادمة. كما يستمر الجدل حول الدستور بين «الإخوان» ومعارضيهم. الدكتور جابر نصار، أحد أعضاء الجمعية التأسيسية المنسحبين، وهو فقيه دستوري، يقول مهاجماً الدستور، بأنه «مشوّه... تمّ سلقه لصالح جماعة الإخوان، بما يخالف كل الثوابت والأعراف الدستورية»، بينما يقول المستشار «حسام الغرياني»، رئيس الجمعية نفسها، إن الدستور نال ما يستحق من تفكير واهتمام، وإن «كل مادة منه استغرقت ثلاثمائة ساعة في مناقشتها». لكن حسبة قام بها المعارضون «أثبتت عدم منطقية هذه المدة». ورغم أن الجدل لا يزال مستمراً حول قضايا الحريات والمادة الثانية والمادة 219 في الدستور الجديد، يقول الصحفي الإيراني المعروف أمير طاهري إن الإعلام الرسمي في طهران يبدي نفوراً من هذا الدستور، إلا أن الرئيس الإيراني هنأ نظيره المصري في اتصال هاتفي، وقد قال مرسي للرئيس الإيراني إن إيران ومصر «بإمكانهما تحقيق التقدم بالتعاون وتضافر الجهود معاً». وإذا استمر تطور العلاقات المصرية الإيرانية في ظل النظامين الدينيين، فقد تنافس هذه العلاقات أو تتجاوز تلك التي بناها السادات مع الشاه. وقد أبقى الدستور على المادة الثانية من الدستور السابق التي تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع»، وأعطى الدستور دوراً للأزهر الشريف «في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية». وأشار الدستور إلى أن مبادئ الشريعة «تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة». وهكذا تضمن الدستور الجديد إشارة صريحة إلى مذاهب أهل السنة، أسوة بدستور إيران الذي ينص في المادة 12 على «أن الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب هو المذهب الجعفري الإثنى عشري». وبينما لم يشر الدستور المصري إلى اتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، نصّ الدستور الإيراني على أن «المذاهب الإسلامية الأخرى والتي تضم المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي تتمتع باحترام كامل، وأتباع هذه المذاهب أحرار في أداء مراسمهم المذهبية حسب فقههم». والمتوقع في اعتقادي أن الحريات الدينية والفكرية التي يتمتع بها المسلمون في أوروبا وأميركا، من سنة وشيعة، أكبر بكثير من تلك المتاحة في إيران أو التي يحميها الدستور المصري الجديد! فكوريا الشمالية تسمي نفسها اليوم بالجمهورية الديمقراطية الشعبية، وهكذا كانت ألمانيا الشرقية، بل كان الاتحاد السوفييتي -كما يقول «طاهري»- «يملك أحد أكثر الدساتير ليبرالية في التاريخ»! النصوص وحدها لا تحمي الحريات بل التطبيق. ويرى الفقيه الدستوري طارق البشري في انتقاداته على الدستور الجديد، أن نصوصه الدينية تُغيّر من طبيعة النظام القانوني المصري، من نظام تكون الشريعة الإسلامية فيه مصدراً رئيسياً للتشريع، فيحتكم لمبادئها عند وضع القوانين الصادرة من البرلمان، إلى نظام غير واضح المعالم من ناحية المرجعية الأخيرة في التشريع والتفسير، البرلمان المنتخب أم هيئة كبار العلماء؟ أم المحاكم والسلطة القضائية؟ وأضاف أن معالجة المواد الدستورية لحقوق الشعب المصري الاقتصادية والاجتماعية هيمنت عليها «الجمل الإنشائية المعتادة دون أن تلزم الدولة بمعايير محددة، وبالتالي لا يقدم الدستور جديداً، ولا يحمي المساواة بين المواطنين ولا يمنع التمييز بينهم». واستغرب البشري من أن الدستور أبقى على «مجلس الشورى» رغم أنه لم يعد له داع، خاصة أنه سيتم انتخابه وفقاً لذات النظام الانتخابي لمجلس النواب، «وبالتالي يصبح لدينا مجلسان منتخبان بنفس الطريقة ولهما تقريباً ذات الصلاحيات». وقد أبدى الشيخ السلفي «ياسر برهامي» سروره البالغ وهو يتحدث عما جرى خلف الكواليس لتمرير الدستور وبعض مواده، وكشف في شريط فيديو على الإنترنت مخططات أسلمة الدستور المصري حيث «لا العلمانيين ولا النصارى فاهمين المسألة.. والله هي مرّت عليهم لأنهم لا يفهموها». وأكد «برهامي» في الفيديو أن «هذا الدستور فيه قيود كاملة لم توجد قبل ذلك في أي دستور مصري». وأبدت المرأة المصرية مخاوفها من بعض مواد الدستور، كما أبدت دول خليجية مخاوفها من احتمال هيمنة «الإخوان» على الأزهر وتسييس المذهب السني برمته. كما يعبر المثقفون والفنانون عن ارتيابهم حيال بعض المواد! وماذا عن الاستقرار والسياحة والمشكلة الاقتصادية؟ ينبغي أن نضع أيدينا على قلوبنا... وننتظر!