أصوات الفاشية الإيطالية... والحنين الزائف
رغم مرور كل هذا الزمن على سقوط إيطاليا الفاشية، وطي صفحة أليمة في التاريخ الإيطالي، ما زالت تأثيرات تلك الفترة العصيبة التي شهدت صعود تيارات قومية متطرفة في أوروبا تمثلت في الفاشية والنازية مستمرة في وجدان الإيطاليين الذين ينظرون إلى المرحلة بعين مختلفة لا تنطوي بالضرورة على نوع من النوستالجيا غير المطلوبة، ورغبة في استحضار تاريخ مخزي، بقدر ما هي محاولة إيطالية لرفع العتب عن موسوليني وتحميل مسؤولة الانحراف الإيطالي الخطير في ثلاثينيات القرن الماضي إلى تأثير هتلر. فحسب الإيطاليين، ما كان زعيمهم بنفس مقدار الشر الذي أبدته ألمانيا النازية، ولم يقترف نفس الجرائم الشنيعة، بل هناك من يرى أنه كان بالأساس رجلاً طيباً يعكس مجموعة من القيم الإيطالية العريقة، حتى كان لقاؤه هتلر، وتحالفه معه الذي غيّره تماماً وحوّله إلى شخص ينضح عنصرية ومعاداة لليهود.
كل تلك التفاصيل في التاريخ الإيطالي واستمراريتها في الحاضر، يسلط عليها المؤرخ كريستوفر دوجان الضوء في كتابه "أصوات فاشية... تاريخ خاص لإيطاليا في عهد موسوليني"، وفيه يرجع المؤرخ البريطاني إلى فترة الثلاثينيات، دارساً الفاشية في سياق تلك المرحلة بعيداً عما تخلفه في النفوس بمنطق اليوم. فمعروف أن الفاشية من المفاهيم القدحية في علم السياسية، تضعها جنباً إلى جنب مع النازية كأسوإ ما أنتجته التجربة السياسية الأوروبية الحديثة.
لذا يرجع الكاتب إلى فترة حرجة في التاريخ الأوروبي يتحاشى الإيطاليون التركيز عليها، لما تحمله من ذكريات أليمة ومن مسؤولية تاريخية. وفي تفسيره لصعود الفاشية يعود الكاتب إلى مرحلة العشرينيات التي شهدت أولى إرهاصات القومية المتطرفة على الساحة السياسية، كان أحد أسبابها وجود شعور عام متخوف من الشيوعية المتمرسة وراء حدود أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى خوف المواطن الأوروبي من وضع اقتصادي صعب، ومن تنامي مشاعر التنافس بين الدول الأوروبية على خلفية الزحف الاستعماري والسعي إلى السيطرة على الأسواق الخارجية. هذا ناهيك عن تداعيات الحرب العالمية الأولى التي كان لها دور كبير في صعود النازية في ألمانيا وشعور إيطاليا بالتهميش إزاء بقية القوى الأوروبية. كل ذلك هيأ أوروبا لتكون تربة خصبة لصعود الفاشية التي تحولت إلى نوع من العقيدة الدينية، تنبني على مجموعة من الممارسات تصل حد تقديس الزعيم واعتباره المنقذ الذي أرسله القدر لإخراج البلاد من أزماتها والتصدي لأعدائها، وهي الصفات التي تجسدت في نظر العديد من الإيطاليين في شخص موسوليني الذي سعى إلى إحياء التقاليد الرومانية القديمة وبعث إيطاليا، باعتبارها وريثة الإمبراطورية الرومانية. وعبر سلسلة من الإجراءات حاول موسوليني تقريب تلك الفترة من أذهان الإيطاليين، سواء من بتبني التحية الرومانية، أو الاحتفاء بالعرق الإيطالي، وكذلك اهتمامه بقيم الذكورة في الرياضية والجيش وغيرها، وإعادة الثقة بالنفس للإيطاليين الذين هالهم ما رأوه من هزيمة قاسية في إثيوبيا، وتراجع مكانة بلادهم على الساحة الأوروبية.
ورغم محاولة بعض الإيطاليين اليوم التنصل من تاريخ موسوليني الذي تعاون مع هتلر، سواء في تهجير اليهود الإيطاليين إلى معسكرات الاعتقال، أو بتبني خطاب مشابه والتحالف معه عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، يرى المؤلف أنه لا سبيل عن التهرب من المسؤولية التاريخية، وأن الطريق الذي سلكته إيطاليا مطلع القرن العشرين بقيادة موسوليني كان نتيجة لدينامية داخلية بالدرجة الأولى ناتجة عن الاضطرابات السياسية، ثم الدور الخارجي الذي لا يمكن إنكاره.
وفي هذا الإطار يريد الكاتب تفنيد ما رسخ في بعض الأذهان الإيطالية طيلة السنوات الماضية، من أن فترة موسوليني لم تكن سيئة بالقدر الذي أريد تصويره، وبأن الرجل نفسه لم يكن شريراً، حيث يؤكد الكاتب أن الأفكار العنصرية اللصيقة بالفاشية والممارسات التي عاناها السود، سواء في إفريقيا أو داخل إيطاليا على أيدي الفاشيين، كانت سابقة حتى على صعود النازية في ألمانيا، بل إن اضطهاد اليهود على يد الفاشيين سبق اضطهادهم على أيدي النازيين، لذا لا يمكن التستر وراء الكاريزما التي أحاطت بموسوليني، ولا بوعوده حول استعادة مجد إيطاليا الآفل، لإخفاء الحقيقة المتمثلة في جرائم الفاشية التي كُللت في النهاية بتحالف مع النازية ودخول الحرب العالمية الثانية.
وإذا كان بعض الإيطاليين لم يتخلصوا بعد من إغراء الفاشية لما تبعثه من روح قومية في النفوس اليائسة، فإن ما تسببت فيه للإيطاليين أنفسهم من ويلات كفيل لوحده برفضها والكف عن إبداء الحنين تجاهها. فقد راهنت الفاشية على تحالفها مع هتلر، لتنتهي المعركة بفقدان إيطاليا سيادتها عقب الحرب العالمية الثانية، وليُسدل التسار على موسوليني نفسه معلقاً على المشنقة.
زهير الكساب
الكتاب: أصوات فاشية... تاريخ خاص لإيطاليا في عهد موسوليني
المؤلف: كريستوفر دوجان
الناشر: بودلي هيد
تاريخ النشر: 2012