هناك لغز سياسي راهن جوهره السؤال التالي: كيف يفكر الروس، ولماذا يعملون ضد مصالحهم في المنطقة؟ ولماذا وقفوا هذا الموقف المحير إزاء «الربيع العربي»، ثم أيدوا النظام الأسدي بكل طاقتهم وحتى لحظة سقوطه الأخيرة القادمة؟ هذا الطور دخلته السياسة الروسية الشرق أوسطية بدءاً من النُذر الأولى لـ«الربيع العربي» في تونس ثم مصر. في هذين البلدين قامت ثورتان شعبيتان ضد نظامي حكم مواليين للولايات المتحدة، البلد الذي تخوض روسيا ضده حرباً باردة جديدة، وتحاول كبح جماح نفوذه في مناطق العالم، والاصطدام معه في سياسات متنافسة هنا، أو الوصول معه إلى سياسات مقايضة هناك. في سياق كهذا كان من المتوقع أن تقفز السياسة الروسية مباشرة لتأييد الثورتين التونسية والمصرية، وتكون النصير الأول لهما على أمل أن تؤسس لموقع نفوذ جديد على حساب الولايات المتحدة التي تخسر حليفين مهمين في آن معاً، بدل أن تقوم بذلك، وفقاً لألف باء سياسات التنافس الدولي والإقليمي، تجمد الدب الروسي، واكتفى بدور المراقب، في ما الولايات المتحدة تسارع في تبديل سياستها التحالفية مع نظامي بن علي ومبارك مائة وثمانين درجة وتتخلى عنهما في ظرف أسابيع قليلة. استطاعت واشنطن عبر سياستها المرنة أن تنتقل من مربع القول بأن النظامين المذكورين يتمتعان بالاستقرار والسيطرة على الأمور إلى القول بأن عليهما أن يرحلا . كل ذلك، مرة أخرى، في ظرف قياسي من الزمن. في تلك الأثناء، لم يسمع أحد عن شيء اسمه روسيا! كانت «تراقب الوضع» عن كثب. نجحت الثورتان التونسية والمصرية ثم الليبية بعدهما ونتجت أوضاع ما بعد الثورات مع قوى سياسية كانت حتى الأمس القريب من ألد أعداء الولايات المتحدة. لكن واشنطن بدلت نظرتها حتى للإسلاميين وقبلت بهم في الحكم وتعاملت معهم. وروسيا «تراقب عن كثب». وعندما قررت موسكو أخيراً أن تنشط في «الربيع العربي» دعمت الطرف الخطأ، وراهنت على الحصان الخاسر منذ اللحظة الأولى، واصطفت على جانب أكثر الأنظمة ديكتاتورية، وكراهة ألا وهو نظام الأسد. ورغم كل المؤشرات التي دلت ولا تزال تدل على الشعب السوري قد دخل معركة حياة أو موت ضد النظام المُستبد بما يعني أن نهاية النظام آتية لا محالة، وموسكو تعتبر أن المعركة معركتها، هي وليست معركة النظام. اضطّرت موسكو مناصرتها لنظام الأسد في سياق صراع القوة العالمي الذي تخوضه مع واشنطن، ولإثبات أن لها قولًا وسطوة في الأجندة العالمية، وليكن الشعب السوري هو من يتحمل، وليسقط عشرات الألوف منه. لكن بالتوازي مع هذه العنجهية فإن هذا المنطق ظل يولد جوانب مثيرة. فالموقف الروسي المؤيد للنظام ضد «التدخل الخارجي» قدم ذريعة للغرب والولايات المتحدة التي لم تفكر أصلاً بالتدخل العسكري ولا هي أيدته. بمعنى آخر، اتصف الموقف الغربي والأميركي بخذلان الثورة السورية والتفرج على بطش النظام المتصاعد بسبب حساباته المعقدة (من سيخلف الأسد، وانعكاسات ذلك على أمن إسرائيل، وسوى ذلك)، لكن الموقف الروسي قدم الغطاء الجوي لذلك الموقف، حيث أصبحت موسكو هي العقبة الظاهرية التي تمنع الغرب من تأييد الثورة السورية والتدخل الفعلي لنصرتها. هذه الأيام تتواتر الأخبار عن المواقف الروسية الجديدة التي تقول إن النظام في سوريا يتداعى بما يشير إلى تخلي موسكو عن حليفها المُخيب للآمال، وهي مواقف لا تزال مترددة، يصرح بها بعض أركان السياسة الروسية، في ما ينكرها البعض الآخر. لا نعرف مغزى إطلاق التصريح ثم نفيه ولا نعرف إن كان لدى موسكو الوقت الكافي لمثل هذا التلاعب والمهاترة. لكننا نعرف الآن، وبشكل مدهش، أن السياسة الروسية دخلت طوراً طويلاً من الحماقة صار يعز عليها أن تخرج منه، وذلك منذ أن أسرفت في تسطير سياسة مؤيدة لنظام الأسد، وقد كانت سياسة معروفة النهاية ومعروفة الخسائر منذ البداية. ونعرف الآن أن الدعم الروسي-الإيراني المتواصل للنظام لم يؤد إلا إلى تواصل الثورة السورية وتصميمها على الخلاص من النظام، واعتبارها ذلك الخيار الوحيد الذي أمامها. كيف استبد العناد في القرار الروسي رغم وضوح عناصر الصراع ومستقبلاته، ولماذا يقبل الروس خسران الشعب السوري كله والرهان على عصابة مصيرها السقوط، ويقبلون بالتوازي تأكيد وتعميق تلك الخسائر الاستراتيجية الروسية المستقبلية؟ هناك بالطبع سلسلة طويلة من الإجابات تبدأ بقصة «الخداع» الذي اكتشفته روسيا في السياسة الغربية عندما تحالفت معها ضد القذافي، ولا تنتهي بالتقديرات الاستراتيجية التي تتسع لتشمل الضغط على واشنطن في مسائل إقامة شبكات الدرع الصاروخية في الجوار الروسي، إلى محاولة المحافظة على سوريا كمحطة تمر فيها أنابيب الغاز والنفط الروسي (عبر إيران والعراق) وبالتالي تقصير المسافات الطويلة عبر المضايق البحرية الأخرى. عناصر الإجابات تلك صحيحة بالتأكيد لكن جمعها إلى بعضها البعض لا يقود إلى بناء استراتيجية وسياسة مقنعة تقف إلى جانب النظام المكروه من شعبه. كل التحليلات التي تفسر موقف موسكو انطلاقاً من المصالح الروسية الحيوية في سوريا لا تقدم لنا سوى نصف الصورة. سبب ذلك واضح وهو أن أبجديات السياسة البراجماتية والمصلحية والتي لا تحتاج إلى عبقرية تحليلية تقول إن المحافظة على تلك المصالح الحيوية تستدعي المراهنة على «الحصان الرابح». في سياق تاريخي اعرض ما سوف يرصد مؤرخو السياسة الروسية موقفها من «الربيع العربي» ومن الثورة السورية على وجه التحديد إلى جانب سجل عريض من السياسات والمواقف التاريخية التي كانت تأتي بعكس ما تستهدفه، حيث الوقوف في الجانب الخطأ من التاريخ. روسيا القيصرية (في عهد بوتين) الحائرة والقلقة والمتوترة، وهي خصائص تنتج سياسات خاطئة، تعيد إنتاج الحيرة والتوتر السوفييتي في أكثر من مرحلة وحقبة تاريخية. في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي وعندما كانت حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا تخوض حروباً طاحنة ضد الاستعمار الأوروبي، البريطاني والفرنسي والإيطالي والبرتغالي والبلجيكي، وقفت موسكو تتفرج! كانت حركات التحرر الوطني في أمس الحاجة إلى حليف دولي يقف إلى جانبها، لكن موسكو كانت ترى أن المعركة الحقيقية ضد الإمبريالية يجب أن يتم خوضها في داخل المتروبول الأوروبي وتقودها الطبقة العاملة ضد الرأسمالية المحلية التي إنْ انهارت فإن الإمبريالية والاستعمار الخارجي سوف ينهاران. كانت نتيجة ذلك الموقف، الذي تبدل ببطء لاحقاً، إن حركات تحرر كثيرة اضطرت إلى الوصول إلى صفقات مع المستعمر لا تلبي كل الطموحات الوطنية.