في ظل المشاكل والصعوبات التي يواجهها الفلسطينيون المنقسمون على أنفسهم يبدو أنهم يحاولون مواساة أنفسهم بالإنجاز الأخير الذي تحقق في الأمم المتحدة بعد تصويت غالبية الدول في الجمعية العامة لصالح ترقية فلسطين إلى دولة مراقب بواقع 138 دولة مؤيدة وتسع دول معارضة و41 ممتنعة عن التصويت... لكن ما تلا ذلك لم يكن جيداً بعد إعلان إسرائيل نيتها معاقبة الفلسطينيين وتشييد 3000 وحدة استيطانية في منطقة القدس بالغة الحساسية، وحتى قبل التصويت في الأمم المتحدة كان الفلسطينيون ينظرون إلى الهدنة الموقعة بين «حماس» وإسرائيل بوساطة مصرية على أنها انتصار يستحق الاحتفال به، فقد سعت «حماس» إلى الترويج للهدنة على أنها اختراق آخر حققته الحركة الإسلامية، ودليل إضافي على مكانتها الصاعدة في المنطقة وتحالفها الجديد مع النظام في القاهرة، ورغم الاتهامات التي واجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي، من خصومه السياسيين لأنه لم يتمم الأهداف المسطرة، ولم يحقق النتائج المرجوة من الهجوم على غزة، إلا أن عدد القتلى الفلسطينيين بلغ 160 قتيلاً فيما لم يسقط سوى ستة إسرائيليين على مدى الثمانية أيام التي استمر خلالها القصف الجوي الإسرائيلي، هذا بالإضافة إلى تجريب نظام الصواريخ المعروف باسم القبة الحديدية والذي أثبت نجاعته في اعتراض الصواريخ الفلسطينية، التي تبقى غير فعالة بالدرجة القادرة على تهديد أمن إسرائيل. واليوم وبعد التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار تجري مباحثات غير مباشرة لبحث التفاصيل بين المسؤولين الإسرائيليين ونظرائهم في «حماس» بوساطة مصرية في القاهرة، وبموجب الهدنة التزمت «حماس» بوقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل فيما تعهدت هذه الأخيرة بالامتناع عن استهداف قيادات «حماس»، هذا بالإضافة إلى رفع تدريجي للحصار الإسرائيلي الممتد على قطاع غزة، وهو الحصار الذي يخالف القانون الدولي. والحقيقة أني كنت دائماً غير مرتاح تجاه الخطوة الفلسطينية في الأمم المتحدة التي أكسبت فلسطين مرتبة دولة مراقبة غير عضو في المنظمة العتيدة ليصبح وضعها مماثلاً لوضع الفاتيكان، غير أن ما قد يتلو ذلك على أرض الواقع لن يغير الشيء الكثير بالنسبة للفلسطينيين، بل قد يولد لديهم نوعاً من الخيبة والإحباط لأن الانتصار الذي تحقق في ردهات الأمم المتحدة والتأييد الدولي الواسع لفلسطين لن يغير الكثير في حياة الفلسطينيين، لا سيما في ظل الوعيد الإسرائيلي بالرد والانتقام. فرغم الحديث المتواتر عن عملية السلام على مدار السنوات الماضية، أصبح مجرد تكرار الكلام نفسه ضرباً من العبث بعد تضييع العديد من الفرص وإصرار الحكومة اليمينية في إسرائيل بقيادة نتنياهو على مواقفها المتصلبة، إذ بدلًا من التسريع في وتيرة إقامة الدولة الفلسطينية من خلال الانسحاب الضروري من الأراضي المحتلة والتوافق مع الفلسطينيين، يعلن نتنياهو مرة أخرى عزمه بناء المزيد من المستوطنات في نية مبيتة على ما يبدو للقضاء على الدولة الفلسطينية. ولعل ما يفاقم الوضع بالنسبة للفلسطينيين استعداد نتنياهو لخوض انتخابات عامة وانشغاله بالمزايدة على خصومه السياسيين بتني مواقف أكثر تشدداً، لكن عندما يستعيد وعيه وينظر حوله سيرى واقعاً جديداً بدأ يتبلور في المنطقة، وسيدرك حجم الفرص التي أضاعتها إسرائيل، فمن جهة هناك القلاقل المتواصلة في مصر وصعود الإسلاميين في البلدان المجاورة، ثم هناك الصراع المحتدم في سوريا، التي كانت طيلة الفترة السابقة جبهة هادئة على الحدود الشمالية لإسرائيل، وسيجد الإسرائيليون نفسهم أمام «حماس» القوية في قطاع غزة و«حزب الله» الأفضل تسليحاً في لبنان، وبوادر عدم الاستقرار في الأردن. وبالطبع لن يكون من الصعب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إدراك خطورة الوضع في الشرق الأوسط، الذي تفاقمه السياسات الإسرائيلية التوسعية ودورها في نسف حل الدولتين، وهو ما عبر عنه المفاوض الفلسطيني المخضرم، صائب عريقات، عندما تحدث عن إنهاء «أي فرصة للكلام عن مفاوضات في المستقبل»، فالمشروع الاستيطاني الجديد الذي أعلنت عنه الحكومة الإسرائيلية يهدد مصير الدولتين، ويقضي على فكرة القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية، لأن المستوطنات الجديدة تفصلها تماماً عن الضفة الغربية؛ وفي غضون أسبوع أو أسبوعين ستوافق الحكومة الإسرائيلية على المقترح النهائي لبناء مستوطنة «جيفات حماتوس» في القدس، وهي أول مستوطنة يتم بناؤها داخل الخط الأخضر منذ 1997، وستؤدي مباشرة إلى فصل المدينة عن بيت لحم في الضفة الغربية. وأمام هذا الوضع وتعبيراً عن غضب العواصم الأوروبية على قرار الحكومة الإسرائيلية قررت كل من لندن وباريس ومدريد استدعاء سفراء إسرائيل لطلب توضيحات والاحتجاج على سلوك الدولة العبرية، لكن هذه الخطوة كما وصفها مسؤول إسرائيلي لم تكن أكثر من «ضربة خفيفة على اليد»، ورغم الكلام الذي نُقل عن احتمال استدعاء الدول الأوروبية لسفرائها في تل أبيت للتشاور، إلا أن ذلك على الأرجح لن يرى النور ليظل الغضب الأوروبي مجرد تعبير لفظي ليس أكثر، هذا بالإضافة إلى الانقسامات الأوروبية بشأن الدعم الفلسطيني في الأمم المتحدة، إذ في الوقت الذي أيدت فيه فرنسا وإسبانيا الخطوة الفلسطينية امتنعت بريطانيا عن ذلك حتى لا تغضب الولايات المتحدة. ورغم توجيه كل من باريس ولندن دعوات عاجلة إلى الولايات المتحدة بالتدخل لإنقاذ عملية السلام والحفاظ على حل الدولتين الذي بدأ يتسرب من بين يدي المجتمع الدولي، ما زال الرد الأميركي ينتظر التبلور، هذا في الوقت الذي تتوسع فيه إسرائيل في بناء المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية، جاعلة من فكرة الدولة الفلسطينية مجرد سراب بعيد المنال.