الحق في الصحة … من الحقوق الإنسانية
يعتبر دستور منظمة الصحة العالمية، من باكورة المواثيق الدولية التي نصت على أن التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة، هو جزء لا يتجزأ من الحقوق الإنسانية الأساسية لجميع البشر، وهو الحق الذي أصبح يعرف بـ«الحق في الصحة» (the right to health). ويشمل هذا الحق -ضمن القوانين الدولية للحقوق الإنسانية- مجموعة من الترتيبات الاجتماعية، مثل المعايير والسياسات، والمؤسسات الصحية، والقوانين الأساسية، والبيئة الممكنة، التي تضمن جميعها وبأكبر قدر ممكن، تمتع أفراد المجتمع بكامل هذا الحق، مع الأخذ في الاعتبار ما هو متاح من مصادر، وحتمية التدرج في التحقيق والإنجاز. ولا يقتصر الحق في الصحة على الرعاية الصحية المناسبة فقط، بل يمتد أيضاً ليشمل ما يعرف بمحددات الحالة الصحية، مثل توافر مياه الشرب النظيفة، والغذاء الكافي، والمسكن الملائم، والمعلومات الصحية الضرورية، وغيرها من العوامل التي تؤثر سلباً أو إيجاباً في الحالة الصحية العامة.
وتعتبر العلاقة بين الحق في الصحة والحقوق الإنسانية من العلاقات القوية والمتشابكة، حيث غالباً ما يؤدي انتهاك الحقوق الإنسانية إلى تبعات صحية سلبية وخطيرة. كما أن كيفية تصميم وتطبيق السياسات الصحية، يمكنه أن يدفع لاحترام الحقوق الإنسانية، أو أن يؤدي إلى انتهاكها، هذا بالإضافة إلى أن تبعات المرض والإعاقات، يمكن التخفيف من أثرها من خلال الإجراءات التي تضمن الحقوق الإنسانية. ومن الممكن إدراك أبعاد هذه الحقوق الإنسانية من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي ينص في مادته الثانية على أن «لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء». وتشمل هذه الحقوق والحريات -كما هو مذكور في الجزء الأول من المادة 25 من الإعلان العالمي- أن «لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته. ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة».
هذا الربط بين الصحة وحقوق الإنسان، والذي أكدته ديباجة دستور منظمة الصحة العالمية، من خلال عبارة محورية تنص على أن التمتع بأقصى درجة ممكنة من الصحة هو حق من حقوق الإنسان الأساسية، دفع بغالبية دول العالم، للتوقيع على اتفاقيات دولية مختلفة لحقوق الإنسان، تتضمن فقراتها بنوداً تُعنى بالحقوق الصحية، بما في ذلك الحق في العيش في ظروف مناسبة للتمتع بالصحة الجيدة.
وتعتبر عدالة التوزيع وتوافر الرعاية الصحية من المحاور الأساسية في تحقيق هدف الحق في الصحة كحق أساسي لجميع أفراد المجتمع، وهو المحور الذي يشهد حالياً اختلالاً واضحاً، داخل الدولة الواحدة، وبين الدول مع بعضها بعضاً. فعلى سبيل المثال، في بعض الدول تخضع 20 في المئة فقط من الولادات لإشراف طبيب أو قابلة، بينما ترتفع هذه النسبة في بعض الدول الأخرى لتصل إلى مئة في المئة، مما يظهر حجم التناقض والتباين في توزيع الخدمات الصحية بين الدول. ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الاختلال، وبالتحديد في الدول الفقيرة، إلى معاناة الملايين من البشر، إما لعدم قدرتهم على الحصول على الرعاية الصحية والخدمات الطبية، أو لأن تحمل تكاليف هذه الرعاية وتلك الخدمات يدفع بهم في النهاية إلى الفقر والإفلاس. حيث تشير التقديرات والإحصائيات الدولية إلى أن 100 مليون شخص ينحدرون إلى غياهب الفقر كل عام، ويضيعون في متاهات الإفلاس المالي، بسبب اضطرارهم لدفع مقابل الرعاية الصحية مباشرة من جيوبهم الخاصة.
ويمكن لمفهوم الحق في الصحة وكونه حقاً من الحقوق الأساسية، أن يشكل قوة داعمة للتنمية الاقتصادية والإنسانية بوجه عام، كما أن انتهاج سياسات للتنمية المستدامة من شأنه أن يدعم الحصول على هذا الحق. فعلى سبيل المثال، يمكن لتوافر مصادر متجددة ونظيفة للطاقة، خصوصاً لأغراض طهو الطعام والتدفئة، أن يخفض بقدر كبير من الالتهابات الرئوية بين الأطفال، ومن أمراض القلب والرئتين بين البالغين، في المجتمعات التي تعتمد حالياً على مصادر غير نظيفة للطاقة، تسبب تلوث وتسمم الهواء داخل المنازل ومحال الإقامة.
وكما تسهم الصحة العامة الجيدة في التنمية الاقتصادية بمفهومها الواسع، وفي النمو الاقتصادي بمفهومه الضيق، لا يمكن تجاهل ضرورة مساهمة التنمية الاقتصادية والنمو الاقتصادي في توفير المصادر المالية الضرورية للحفاظ على الصحة العامة، ما يجعل هذه العلاقة تبادلية، حيث يصب كل طرف منها في مصلحة الآخر. وهو ما لو تحقق، فمن شأنه ضمان التغطية الصحية الشاملة، وتحقيق عدالة التوزيع للخدمات الطبية، ما يعتبر عاملاً أساسياً في توفير الاستقرار الاجتماعي والسياسي، كون الرعاية الصحية حقاً من الحقوق الاجتماعية الأساسية، يؤدي فقدانها وانتقاصها إلى الاضطرابات وإلى زعزعة الاستقرار المجتمعي.