خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر الماضي في نيويورك، بحثت دول مجلس التعاون تعزيز علاقات التعاون مع مجموعة «سيلاك» التي تضم ثلاثاً وثلاثين دولة من أميركا الوسطى والجنوبية والبحر الكاريبي. ونقلت الصحف أيضاً أن منطقة دول أميركا الجنوبية تعتزم بناء منطقة تكامل تجارية مع دول المنطقة العربية، والبحث في إيجاد إجراءات استراتيجية لاستبدال اقتصادات الدول المتضررة بالأزمة المالية العالمية وديون منطقة اليورو. ولا شك أن مثل هذا التوجه الجديد يفتح شهية الحوار، خصوصاً بعد أن عانى مواطنو الدول العربية من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بعد أن برزت مؤشرات على احتمال حدوث فجوة غذائية حادة في المدى الزمني المنظور وغير البعيد. وكانت بعض دول الخليج العربية قد قررت التوجه نحو الاستثمار في زراعة الأرز، وذلك على الخصوص كونه الغذاء الشعبي الأكثر استهلاكاً لمجتمعات المنطقة، على أن يكون ذلك الاستثمار الزراعي الخليجي في بعض الدول الآسيوية ذات الشهرة في مجال زراعة الأرز، والهدف هو تأمين احتياجات الدول الخليجية من هذه السلعة الغذائية الهامة مثل الأرز. وفي اعتقادي أن هذا التوجه حميد وأنه ينبغي أن يتوسع ليشمل مواد غذائية أخرى ضرورية للشعوب الخليجية. وبعيداً عن الأحلام العربية حول الاستثمار في الدول العربية التي أثقلتها جراحُ الانقلابات والقلاقل الداخلية، وعهود الفساد الإداري والمالي والحروب الإثنية والحدودية وسائر أعراض الفوضى والفساد وعدم الاستقرار، أخبرني صديق عن موقف دولة أفريقية اتفقت مع دولة عربية على تمويل مشروع زراعي مهم، وبدأت الدولة العربية في استصلاح الأراضي، وقامت بإحضار المعدات الزراعية اللازمة، وبدأت اكتتاب وتشغيل العمال، إلا أنها بعد كل ذلك فوجئت بعدم وجود توصيل للكهرباء إلى المكان، ولما أوصل مسؤولو المشروع الأمرَ للحكومة الأفريقية المعنية، كان الرد من جانبها: نحن لا نتكفل بالكهرباء، ليحضروا الكهرباء معهم من الخارج! وبالطبع فقد نتج عن ذلك الموقف السلبي أن تجمد المشروع وتجمدت مئات الملايين من الدولارات. إنه نموذج من نماذج سوء التعامل مع المستثمرين العرب في البلاد العربية، وهو يماثل نموذجاً آخر لمستثمرين خليجيين حلّوا ببلد عربي يعاني العوز والبطالة وسوء المنقلب! ولما عرضوا فكرتهم الرامية لاستثمار 200 مليون دولار في مشروع حيوي، ظل المشروع يراوح مكانه، حتى اكتشف المستثمرون الخليجيون أن ابن الرئيس(المخلوع) كان يطلب عمولة بنسبة 25 في المئة من إجمالي قيمة المشروع، وهو ما أدى لتأجيل المشروع ثم إلغائه أخيراً. إن تلك الأحلام لن تقدم ولن تؤخر في عالم تسوده المصالح ويميزه الوعي بحسن إدارة تلك المصالح. ولسنا بحاجة إلى طرح أمثلة للخسارة التي تحمّلها رجال أعمال خليجيين في استثمارات هائلة في البلاد التي هبّت عليها رياح «الربيع العربي»، فكانت «طوفاناً» مدمراً بالنسبة لتلك الاستثمارات. لذلك يمكننا القول إن اتجاه الاستثمارات الخليجية إلى الدول الآمنة سياسياً والمستقرة اقتصادياً والمتمأسسة عبر القوانين التي لا يتم اختراقها من مراكز القوى والنفوذ، وذات الاقتصادات المتينة، خيرٌ ألف مرة من الاستثمار في بلدان تنهشها الصراعات وتتكالب على «رائحة الدولارات» فيها مئاتُ العيون والأفواه من الموظفين الرسميين وأتباعهم، أو تلك التي لم تستقر على حال، وتعصف بها نزاعات قد يطول أمدها! إن عامل المصلحة والأمانة يجب أن يحكم هذه المسألة، ودعكم من قضية العروبة والقومية التي أهدرت مليارات الدولارات من أموال العرب في شعارات لم تساهم في إنضاج رغيف الخبز أو تصنيع علبة صلصلة للمواطن العربي... حيث تحولت الكثير من الصناديق والهيئات العربية المشتركة إلى «جمعيات تعاونية»، أحكمت عليها « القطط السمان » من مراكز القوى وأصحاب النفوذ. المسألة العقلانية والبراجماتية يجب أن تحكم الاستثمار الخارجي، مع كل التقدير لقضايا التآخي العربي، وتوزيع الثروة العربية، وغيرها من الشعارات التي كررتها الأنظمة المنهارة، والتي ثارت عليها شعوبها نظراً لفشلها في تحقيق تنمية لتلك الشعوب، وبعضها أغنى من دول الخليج، كالعراق وليبيا. إن تحقيق الأمن الغذائي من أهم ما يمكن التفكير به في الوقت الراهن، حيث لم تغلق المنافذ البحرية بعد، ولم تبدأ الطائرات في حجب المجالات الجوية والبرية التي عبرها يتم تزويد دول المنطقة بالمواد التموينية الضرورية وغيرها من السلع. ونظراً لصعوبة المناخ في الخليج، فإن التخطيط السليم للاستثمار في الصناعة المعتمدة على الزراعة، مثل الألبان ومنتجاتها والأسمدة وغيرها مما تحتاجه دول مجلس التعاون، من القضايا الملحة هذه الأيام. ولابد من رؤية اقتصادية واضحة لعهد «ما بعد النفط والغاز»، وهما سلعتان قابلتان للنضوب حسب التقارير الاقتصادية. تلك الرؤية لابد أن تأخذ في الاعتبار حقَ الأجيال القادمة في الحياة الرغيدة، حتى لا يظلمها التاريخ. إن توثيق علاقات التعاون مع الأقاليم والمناطق التي تتحقق فيها الشراكة الاقتصادية لصالح الطرفين، من الأمور التي يجب أن تعتمد عليها الرؤى الاقتصادية، من أجل تجنيب المنطقة كوارث غذائية أو حتى مائية أو أزمات وقود، خصوصاً وأن المجتمعات الخليجية قد «تربّتْ» على الدولة الريعية الكافلة لمستويات عالية من الرخاء الاجتماعي المستمد من الرخاء الاقتصادي.