عندما تناهى إلى سمعي خبر اختيار سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، حفظها الله تعالى، الشخصية الأولمبية الدولية لهذا العام، لم أشعر كما لم يشعر غيري من بنات جيلي بذلك الاختيار، فـ"أم الإمارات" شخصية عظيمة، لا تؤطرها كلمات المديح ولا تفيها طوال المقالات حقاً، فحيثما يممنا وجدنا لها يداً بيضاء، وأنّى التفتنا، رأينا لها أثراً من آثار الخير والإنجاز، لم تبحث عن إطراء ولم تكترث لتقريض، ولم تخلب بصيرتها أضواء الشهرة، فهمّها كان منذ عرفناها أن تأخذ بيد المرأة إلى مقام جديرة به، جنباً إلى جنب مع شقيقها الرجل، من أجل مجتمع متكامل ومتفاعل، كما شاطرها بذلك رفيق دربها زايد الخير، رحمه الله. يقول المؤرخ اليوناني الشهير بوليبيوس: "كثير هم أولئك المنتصرون، ولكن قليلٌ منهم من يستطيع أن يُحسن استثمار ذلك الانتصار"، وهي جملةٌ تختصر الفارق بين (أم الإمارات) وقوافل الشهيرات عالمياً التي لا يتعدى اهتمام إحداهن ذاتها ونظرتها النرجسية لنفسها، فسمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، ليست امرأة شهيرة فحسب، بل ولا قيادية فقط، فقد تعدت ذلك لتكون رمزاً وطنياً شامخاً، يُشار إليه ببنان الإعجاب، وتُضْرَبُ به روائع الأمثال، فقد تركت حياة الترف، ولم تأبه بلمعان أضواء الشهرة من حولها، وأخذت على عاتقها أن تكون عوناً لزايد في حُلمه الكبير، وسنداً له في سعيه الدؤوب لتحقيق الرفاهية لشعبه وأبنائه. ولا تزال سيدات الرعيل الأول، يتذكرن الحملة الكبيرة بقيادة سموها لمحو الأميّة بين الإناث التي حققت نجاحاً كبيراً بفضل اهتمامها الكبير ومتابعتها المستمرة لذلك المشروع المهم. لقد آمنت سموّها بأن النجاح ليس صُدفة تحدث، وإنما هو استعداد تام ينتظر فرصة مواتية لانتهازها بأفضل طريقة ممكنة، وأنّ التدرج المنطقي هو أساس البناء الصحيح، وصولاً بالـمُنجَز إلى ما يُعرّفه علماء الاقتصاد بنظرية (كرة الثلج المتدحرجة)، إذ يتعاظم النجاح بمرور الوقت، كما تتعاظم تلك الكرة، لذا بدأت بتأسيس جمعية نهضة المرأة الظبيانية مع بدايات الاتحاد، ثم قامت بعد أن اشتد عود تلك المؤسسة ونضجت تجربتها، بتأسيس الاتحاد النسائي عام 1975، لتبدأ الانطلاقة الحقيقية لتمكين المرأة الإماراتية وتقديمها عنصراً فعّالاً قادراً على خلق التوازن المطلوب لمسيرة التنمية الشاملة، التي قادها زايد الخير، فكانت معه قلباً وقالباً في تناغم جميل مع نظرته الشاملة ومنهجيته المتدرّجة في الوصول للأهداف المرجوّة. تعلمتْ سموّها من زايد الخير أهمية عنصر المبادرة وعدم انتظار المعجزات لتحدث بنفسها، بل الإنسان من يجب أن يخلق تلك المعجزات بالعمل المضني والعزيمة التي لا تُطفئ شُعلتها عراقيل الأحداث، وأن يكون الهدف ماثلاً أمامها دائماً حتى تحقيقه عندما يتيه الكثيرون في التفاصيل الصغيرة حتى يضيع المسار للهدف الرئيسي! وتعلمتْ من زايد أنّه من المهم أن تفهم الآخرين قبل أن تُطالبهم بفهمك وتقبّلك وتقبّل فكرك المختلف عنهم، لذلك كانت كلمتها إباّن رئاستها لمنظمة المرأة العربية عام 2007 في التأكيد على ضرورة انفتاح المرأة العربية على الآخرين، وعلى أهمية حوار الحضارات للوصول إلى تواصل إيجابي فعال مع من حولنا، الأمر الذي يدلّ على بُعد نظرتها واختلافها الكبير عن الآخرين ممن يدورون في حلقات مفرغة! وتعلّمتْ من زايد أنّ عطاء المُحب هو عطاءٌ غير مشروط ولا ينتظر شيئاً في المقابل، وهكذا هم القادة، أياديهم غمامةٌ ممطرة كقلوبهم، فحيثما أتت "أم الإمارات" وأنّى حلّت، نشرت الخير العميم وفتحت أبواب الأمل لمن فقده أو شارف على ذلك، في هذا البيت تزرع بسمة، وفي ذاك المنزل تحنو على قلب يتيم، وفي تلك الناحية تمسح دمعة حزين بمنديل أمل جميل لغد أجمل، فأحبتها قلوب من لم تعرفها قبل قلوب من عرفتها وألِفتها. بعد هذه السنين من الجهد الكبير والمبادرات المتعدّدة والمتابعة التي لم تتوقف من سموّها، فإنّه لواجب أن نقول لها : "بوركتِ وبورك زرعك أم محمّد"، ففي حين تضيق بالنساء السُبُل فيما حولنا من دول، ويُضيّق عليها في أمور ثانوية، فإنّ جُهد "أم الإمارات" قد أفرز واقعاً مشرقاً لبناتها، فها هو مجلس الوزراء يحوي أربع وزيرات، بينما نراها نائباً لرئيس المجلس الوطني الاتحادي، وتمثل ما نسبته 66 في المئة من وظائف القطاع الحكومي، بينهن 30 في المئة في مناصب قيادية، وفيما يتعلق الأمر بالقطاع الخاص، فقد بلغ عدد سيدات الأعمال بالدولة 13353، بينهن 5500 في أبوظبي وحدها، وتزيد مدخراتهن على 10 مليارات دولار أميركي، ويقمن بقيادة أكثر من 20 ألف مؤسسة وشركة محلية وإقليمية، في بيان جلي على واقع يبزّ وضع المرأة حتى في العالم الغربي الحافل بالعديد من دعاوى التفرقة والنظرة الدونية التي لم يستطع إعلامهم إخفاءها عن المتابعين. وإنّه لمن الجدير بنا، الإشارة إلى حصول سموّها على أكثر من 500 وسام عالمي وإقليمي، فوحده النجاح من يتم ملاحظته من طالبي النجاح، وما تلك الأوسمة إلا تقدير معنوي من تلك الدول والمنظمات على المنجزات الكبيرة التي تحققت للمرأة العربية الإماراتية بجهود سموّها، وكيف خالفت، ببُعد نظرتها وسعيها الكبير، النظرة المعهودة عن المرأة في هذا الجزء من العالم، حيث الأميّة وبخس الحقوق وسوء المعاملة وإغفال دورها خارج حدود البيت تماماً، هو الفكرة المرادفة عند الغرب عن عالمنا. لم يُسمِّها الشعب "أم الإمارات"، إلا لأنها خير من يستحق ذلك الاسم، وأجدر من يحمله، وأحق من يوصف به، قلبها لنا وطن وعيناها لنا ملاذ، هي بقيّة روح زايد الـمُحبّة، وبقيّة قلبه الكبير، وبقيّة هديه ومساره وجود كفّيه، كيف لا تكون كذلك، وهي التي قضى شطر حياته معها، وشاركته في بيض الأيام وسودها، فكانت له نعم السند وخير الشريك، فشاطرته أحلامه وآماله وشدّت على يديه ودعمته طيلة تلك السنين الـمُضنية حتى تحقّق الحلم الكبير، لنتيقّن بأنّها المعنيّة بقول الشاعر الشهير: ولو أنّ النساء كمن لقينا... لَفُضِّلَت النساءُ على الرجالِ مهرة سعيد المهيري كاتبة إماراتية