ذاكرة الاتحاد... كنوز وشهادات
تشعر بالصدمة وأنت تستمع إلى شاب إعلامي في الأربعينيات من عمره يطرح سؤالاً يقول: من هو أحمد خليفة السويدي؟ والسؤال يطرح في ليلة ذكرى اليوم الوطني لدولة الإمارات!
بادرة الوفاء والوصل التي يقوم بها الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في تذكر أهل هذا الوطن الذين أخلصوا في مسيرة البناء أو كانت لهم أدوار اجتماعية في خدمة مجتمعهم، والتي يقوم بها على مدار العام وفي مختلف إمارات الدولة، كان لها وقع مؤثر في ذكرى اليوم الوطني عندما زار ثلاث شخصيات كانت لها بصمات وساهمت في تأسيس الدولة ونهضتها، إحداها كانت معالي أحمد خليفة السويدي.
سؤال ذلك الإعلامي المواطن طرحه عندما شاهد الصورة، كان لحظتها يبحث عن إجابة، يريد أن يتعرف أكثر على هذه الشخصية.
«مهندس الاتحاد» كما أطلقوا عليه، لم يكن مجرد وزير خارجية، فهو الشخصية التي حفر التاريخ اسمها، كونه الصوت الذي أذاع خبر قيام دولة الإمارات العربية المتحدة للعالم. لقد تحمل مسؤوليات ومهاماً متعددة في الخارج والداخل معاً، وكان عليه أن ينقل الخبر ويبني علاقات الدولة بدول ومنظمات العالم، يحشد ويقارب ويوازن ويستقطب. يخلق الشراكات ويصنع دبلوماسية الإمارات، وكان عليه مهام أكبر في الداخل بين إمارات ستتخلى عن كياناتها من أجل دولة الاتحاد. كان عليه أن يكون بالقرب من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، كما هو في الصورة التاريخية خلال توقيع اتفاقية قيام الاتحاد، وكان عليه أن يجمع الرجال والخبرات لتبدأ عجلة البناء والمسيرة. فلم يكن مجرد وزير عابر ساهم في بناء الدولة. تأملوا الصور، واسألوا الشخصيات التي عاشت تلك الحقبة، وليته يتكلم ويروي تاريخ هذا الوطن كما عايشه عن قرب.
احتفالية هذا العام باليوم الوطني كانت مميزة، كانت أكثر فرحاً والتصاقاً بدولة الاتحاد، كان الجميع يختزن كل هذا الحب، ووجدوا يوم ذكرى ميلاد الدولة أجمل وأغلي مناسبة يمكن أن يعبروا فيها عن فرحهم وولائهم ومحبتهم للوطن وقيادته. ميزتها اللقطات التاريخية التي سكن صداها في ذاكرة جيل البدايات والتي أعادت القنوات الفضائية بثها، فشاهدنا لأول مرة صوراً قديمةً متجددةً توهمنا أنها ضاعت.
كما أُعيد المجد لدار الاتحاد ليعرف الجيل الجديد قصة هذا المكان الذي يمر عليه يومياً في تنقلاته وربما لا ينتبه له كثيراً، وكان حديثاً طويلاً من الجميع عن محبة الوطن، وكانت المبادرات الكريمة والسخية دائماً من صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، نحو مشاريع أكبر للمستقبل ومن أجل رفاهية وسعادة إنسان هذا الوطن.
نعود لحديث الذاكرة ونحن ندخل عاماً جديداً من عمر دولة الاتحاد. كانت اللقطات التاريخية المصوّرة مؤثرة وملهمة، لكن الأهم في المرحلة المقبلة هو الاشتغال على عملية التوثيق المتكامل لمسيرة الاتحاد وإرهاصاتها الأولى، فحقبة السبعينيات ومرحلة التأسيس هي اليوم جزء من التاريخ، بل قد تكون أهم أجزائه، إذ كانت مرحلة البدايات بعد قيام الدولة. وهذا التوثيق لا يكتمل إلا بالوصول إلى الجيل الذي عمل مع زايد وراشد عن قرب، وكانت لهم أدوار ومسؤوليات في العمل الحكومي.
وخلال ليلة الاحتفال مثلاً غاب عنا الشيخ أحمد بن حامد، جاء خبر رحيله رحمه الله ليأخذ بعض فرحنا وذاكرتنا معه، فهو أحد الرجال الذين ساهموا في مسيرة بناء دولة الاتحاد، وكان أول وزير إعلام للدولة، ويومها كانت الوزارة عبارة عن وزارات مجتمعة، فهي معنية بالثقافة والسياحة والرياضة والإعلام الخارجي والفنون والشباب، بالإضافة إلى ثقل وتشعبات الإعلام التنموي في دولة ناشئة تحاصرها الصعاب والتحديات من كل جانب. وبالتأكيد فإن الشيخ أحمد بن حامد كان يملك ذاكرة ولديه صورة لتلك المرحلة مُقربة ومليئة بالتفاصيل، لكننا للأسف لم نصل إليه، فغادرنا وغابت معه تفاصيل سيرة غنية.
وقبله فقدنا ذاكرة حموده بن علي، وكذلك الشيخ سالم بن حم الذي عاش قرب زايد... وغيرهم. إنهم يخرجون من بيننا، ولا نشعر إلا بالوجع والندم على أننا خسرناهم للأبد، وأننا لم نقبض على خزائنهم المغلقة من تفاصيل الذاكرة والأحداث التي كانوا شاهداً عليها وجزءاً منها.
في ليلة ذكرى العيد، كانت إعلامية تحاور معالي راشد عبدالله وزير الخارجية السابق عن مراحل بناء الدولة، وهو من الشخصيات التي كانت لها بصمات وأدوار عديدة خلال مسيرة بناء الدولة، فردّ عليها عندما حاولت أن تفسر سبب هذه النهضة وسرعة الإنجازات مقارنة بواقع الدول العربية الأخرى، قائلاً: «في الإمارات لم يكن عندنا حرق مراحل، بل كان هناك تأسيس صحيح». وعندما تحدث عن الحاضر قال: «علينا أن نعيش ونفخر بمنجزاتنا ونستمتع بها». ورغم أن المذيعة متخصصة في المحاورات، فإن راشد عبدالله كان يعيدها إلى المحاور ويذكرها ويصحح لها معلومات، كان حاضراً بقوة، إذ ما يزال يتمتع بالفراسة والنظرة الدبلوماسية الثاقبة واللغة الجميلة، فهو أحد فرسان ذلك الجيل، فمن منا فكر أن يحاوره ويكتب بعض مفاصل سيرة الدولة من خلال مذكراته وشهادته على تلك المرحلة.
وأين اليوم من ذاكرة تلك الشخصيات التي كانت لها أدوار عديدة في مراحل مختلفة من بناء الدولة، أو كانت قرب زايد وراشد، أمثال مهدي التاجر، ومحمد الحبروش، والفريق محمد سعيد البادي، والدكتور مانع سعيد العتيبة، وسعيد الغيث، ومحمد خلفان الرومي، وسيف الجروان، والدكتور عبدالله عمران، ومحمد سعيد الملا، وأحمد حميد الطاير، وسعيد الرقباني، وعلي سالم العويس، ومحمد صالح بن بدوه، وعبدالله المزروعي، وسعيد غباش، والفريق حمد بن سهيل الخيلي، وعبدالله المسعود، وسعيد جمعة النابودة، والفريق خلفان مطر الرميثي، وجمعة البواردي، وأحمد بوحسين، والدكتورة عائشة السيار... وغيرهم كثر. لقد ساهموا طويلاً في مسيرة الدولة الاتحادية. وفي كل مرحلة هناك تاريخ ورجال وتفاصيل وقصص تروى لا تذكر في زمنها، بل في عصور أخرى تكون وثائق وشهادات في غاية الأهمية. فهل فكرت جهة ما أن تقدم (جميلاً) لهذا الوطن، وعملاً يذكر لها في المستقبل، أن تتبنى مشروع توثيق ذاكرة شخصيات هذا الوطن؟