تكرر مشهد السؤال عن الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط في فعاليات منتدى "صير بني ياس"، الذي استضافته دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخراً بالتعاون مع المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتم هاوس". وتزامن افتتاح المنتدى مع الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة واستمرار احتدام الصراع السوري، وكذلك الإجابات عن تحدي إيران المتصاعد لا تزال بعيدة المنال، مع تنامي اهتمام الكثيرين بالمسار الذي تسلكه السياسة المصرية. ولم يقترح أي من المشاركين ما إذا كان بإمكان أميركا أو يترتب عليها الإجابة على كل الأسئلة المطروحة، لكنهم اجمعوا بلا استثناء من عرب ومن شمال أفريقيا وجنوبها وجنوب آسيا ومن أوروبا، على غياب القوة العظمى. لكن السؤال الوحيد هو: ما إذا كان هذا الغياب مؤقتاً أم دائماً. ومن المثير للإعجاب رغبة المنتدى المتزايدة في رؤية دور أكثر فعالية من جانب أميركا في منطقة الشرق الأوسط، خاصة وأن الحديث عن تقلص دورها كقوة عالمية بارزة لم يكن كثيراً. كما ليس هناك من يُعِدُ لبروز الدور الهندي أو الصيني أو التركي ولم يدع حتى الأوروبيين أن الاتحاد الأوروبي يملك العزيمة أو القوة التي تؤهله للعب دور أكبر في المنطقة، لتظل بذلك أميركا وبدرجة كبيرة اللاعب الأكثر أهمية. وما أثار اهتمام الناس ليس تراجع القوة الأميركية، بل تراجع رغبتها وهو الشعور بأن إدارة أوباما وأفراد الشعب الأميركي رفعوا أيديهم عن منطقة الشرق الأوسط. وفي أول رحلة له خارج أميركا بعد إعادة انتخابه، اتجه أوباما إلى جنوب شرق آسيا في إشارة واضحة للمحور الجديد. لا أحد يبغض أن تولي أميركا اهتماماً أكبر بآسيا، لكن ينظر الناس في الشرق الأوسط لهذا المحور كمحاولة لغض أميركا طرفها عن مشاكل المنطقة المعقدة. كما يدركون أن أوباما وبما لحقه من ضرر من اتفاقية سلام الشرق الأوسط قبل ثلاث سنوات، ليس لديه الرغبة في الدخول في مثل هذه المشاكل مرة أخرى. ويلاحظون كذلك، مدى التحفظ الذي تبديه أميركا تجاه ما يجري الآن في سوريا. من الصعب إنكار أن العديد من الأميركيين ليس فقط داخل إدارة أوباما، يرون أن سياسة أميركا في حاجة لإعادة التوازن. كما يعتقد هؤلاء أن الأهمية الإستراتيجية للشرق الأوسط بدأت في التراجع، لا سيما وأن أميركا بدأت تتحرر من قيود الاعتماد على نفط المنطقة. ولم يفعل أوباما الكثير حيال المفهوم السائد بين الناس في أن أميركا لم تجن شيئاً من هذه المنطقة سوى المشاكل. وعند اندلاع الثورات العربية لأول مرة، وعد البيت الأبيض بأن يولي المزيد من الاهتمام والموارد تجاه تلك المناطق، فالحماس الأميركي تجاهها فَتُر منذ مدة طويلة. ودأبت الإدارة الأميركية على الترويج للنجاح الذي حققته في ليبيا، إلا أن قلة الاهتمام والمتابعة شوهت حتى تلك الصورة الجميلة. وتباهت حملة أوباما الانتخابية بإخراج القوات الأميركية من العراق، في حين ليس لدى المسؤولين في الإدارة الكثير ليقولونه حول ما يجري في واحدة من أكثر الدول أهمية في المنطقة ومعاناتها التي لا تزال مستمرة من أجل تحقيق التغيير الديمقراطي. والمفارقة طبعاً، أنه كلما حاولت إدارة أوباما التوجه نحو آسيا، كلما أعادها الشرق الأوسط مرة أخرى. ومن الوهم الاعتقاد في أننا سنكون بمعزل عن شؤون الشرق الأوسط، حيث لم يعد العالم مجزأ بمناطق جغرافية واضحة وأن ما يجري من أحداث في الشرق الأوسط تنعكس آثارها على بقية دول العالم كما هو الحال في آسيا. ومهما يكن المصدر الذي تجلب منه أميركا نفطها، تتأثر أسعار الطاقة العالمية بمدى حرية انسياب النفط من الشرق الأوسط وأن حلفاء أميركا في أوروبا وآسيا لا يزالون يعتمدون على ذلك كمصدر رئيسي. وفي حالة امتلاك إيران لأسلحة نووية، لن تتأثر منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل كذلك النظام العالمي الذي ينادي بعدم انتشار الأسلحة. كما أن النجاح أو الفشل المعقود على تجربة الدمج بين الديمقراطية والإسلام النموذج الحالي في مصر وتونس ومناطق أخرى، سيؤثر على مجرى السياسة في العالم الإسلامي من المغرب إلى باكستان إلى جنوب آسيا وكذلك في أوروبا. وفي حالة انهيار سوريا، فإن فرص بروز جماعات إرهابية مسلحة في بلد يملك أكبر مخزون من الأسلحة الكيماوية، كبيرة للغاية. وتبدو معالم العالم الحالي غير واضحة وكذلك بالضرورة الإستراتيجية المطلوبة لاحتوائه. وظلت الولايات المتحدة الأميركية ولعدد من العقود قادرة على توفير الأمن والاشتراك في ذات الوقت في ثلاثة مسارح عمليات رئيسية في الشرق الأوسط وأوربا وآسيا. أما اليوم، فأضحت هذه المسارح أكثر تداخلاً من النواحي الاقتصادية والإستراتيجية من أي وقت مضى. لذا، دعنا وبكل ما هو متاح إعطاء آسيا ما تستحقه من اهتمام، لكن العالم لا يسمح لنا بالتقليل من أهمية المنطقتين الأخريين. وهذا ما يشير إليه معنى القوة العالمية العظمى، حيث يمكن لأميركا أن تغير محاورها لكن ليس التخلي عنها. روبرت كاجان زميل رئيسي بمعهد بروكنجز ينشر بترتيب مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"