لقد خلق الله عز وجل الإنسان حراً وجعل في فطرته عشق الحرية والتعلق بها، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". وقاد الإسلام البشرية في عملية تحرير الإنسان حتى جعل اختيار الدين جزءاً من حريته فحرم إجباره على اعتناق الإسلام كما جاء في قوله عز وجل (لا إكراه في الدين)، وانتشرت بين المسلمين ثقافة الاختلاف والرأي والرأي الآخر وبرزت المذاهب الفقهية والأصولية، واستوعب المسلمون نتاج الحضارات الإنسانية وأضافوا إليها مما جعلهم قادة العلم والفكر الإنساني وكل ذلك من منطلق أن الحق هو ما جاء به الوحي، وأما آراء الناس فلا يتم التعامل معها من منطلق حق وباطل وإنما هي آراء فيها الصحيح وفيها الخطأ وما هو صحيح اليوم قد يتبن خطؤه غداً، وما هو خطأ اليوم قد تثبت صحته غداً، وهذا النهج سلكه السواد الأعظم من الأمة بخلاف الشذاذ المتطرفين في فكرهم، الذين تجدهم في كل دين ومذهب وعصر. إن احتكار الحق والتحدث باسمه هو آفة خطيرة يمارسها البعض ضد مخالفيه في الرأي مما يوجد إرهاباً فكرياً يمهد لسيادة الرأي الواحد وقمع المخالفين له، مما يؤدي إلى حرمانهم من حرية إبداء آرائهم خشية الاتهام بالكفر أو الضلال، والنتيجة أن يسود الرأي الواحد لأنه يقدم نفسه على أنه يمثل الحق فيما يصدر عنه وأما الآخرون فما يصدر عنهم هو الباطل والغواية والضلال! فليس كل من تشدق بدعوى الحرية هو فعلاً من دعاتها، وإنما يعني البعض بالدعوة إلى الحرية حريته هو وليس حرية الآخرين، ولذا فإذا مارس الآخرون حريتهم بخلاف ما يتوافق مع أجندته سارع إلى ممارسة ما يراه حقاً له في التحدث باسم الحق وإطلاق مختلف الأحكام على الآخرين. وهذا ما مارسته جماعات الإسلام السياسي في الفترة الأخيرة في تونس ومصر، فقد انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي الشريط المصور للغنوشي وهو يخاطب السلفيين متحدثاً عن حلفائه وشركائه في الحكم بخطاب إقصائي إلى أبعد الحدود ولا يعبر أبداً عن حق الآخرين في أن يكونوا شركاء في الوطن والحكم. وأما في مصر فقد تحول دعاة الحرية بالأمس في ميدان التحرير إلى ممارسي القمع بحق شركاء الأمس لأنهم مارسوا حريتهم في التعبير عن آرائهم في نفس الميدان. والسبب يعود إلى أن تربية هذه الجماعات تقوم على أن الحق معها هي وتمثله وعلى الاتباع والآخرين الامتثال والطاعة وليس المناقشة والحوار! ولأنها تفتقد الحوار وتعدد الآراء داخل كوادرها وفي مناهجها فلن يتقبل أعضاؤها الحوار وتعدد الآراء، وأن يكون للآخرين حق في أن يكون لهم رأي يختلف عن رأي الجماعة. والخلاصة أن حرية الرأي حق للجميع وليس لفئة دون غيرها، وأنها ثقافة ينبغي أن يتربى عليها الناس حتى تتحول إلى ممارسة ينعم بها جميع أفراد المجتمع.