تُعتبر الهند بلد التعددية العرقية والدينية واللغوية بامتياز، فهي حافظت على هذا الطابع المميز والفريد منذ عصور قديمة حتى أيامنا هذه، دون أن تمس بنسيجها المتنوع ومجتمعها المتعدد، فسكانها الكثر يتوزعون في انتماءاتهم العرقية بين الآريين واليونانيين والمغول والشعوب المنحدرة من وسط آسيا، بالإضافة إلى من يعودون بأصولهم إلى العرب والترك والأفغان وغيرهم، هذا التنوع العرقي ينعكس بوضوح على ملامح الهنود وسمتهم، فسكان كشمير مثلاً يميلون إلى اللون الفاتح والملامح الدقيقة فيما تنعدم هذه الصفات مثلاً في سكان ولاية "تاميل نادو" و"كيرلا" بجنوب الهند. لكن التنوع لا يقتصر على الجانب العرقي والأصول الإثنية لسكان الهند، بل يتعداه إلى التعدد اللغوي، إذ معروف أن الهند تزخر بعدد كبير من الألسن واللغات يتجاوز 400 لغة منطوقة، كما أن المشهد الديني حافل هو الآخر بالتعدد والاختلاف، بحيث تضم الهند جميع الديانات الكبرى المتواجدة في العالم مثل الإسلام والمسيحية والهندوسية والبوذية التي تجد لها جميعاً موطئ قدم ومساحة للتعايش والازدهار بفضل الحرية الدينية المكفولة لجميع شراح المجتمع. ولا ننسى مثلاً أنه فيما يتعلق بالإسلام، تضم الهند أكبر عدد من المسلمين بعد إندونيسيا، وربما لا يعرف العديد من الناس أن أكبر جالية لأتباع الكنيسة السريانية تعيش في الهند وليس في سوريا، أو بلاد المشرق العربي، بأغلبية واضحة في ولاية كيرلا بالجنوب. ورغم هذا التنوع في المعتقد الديني يعيش الهنود من جميع الديانات في وئام لا يعكر صفوهم سوى بعض الحوادث المتفرقة والنادرة، هذه الأخيرة لم تفلح في ضرب التعايش السلمي بين أتباع الديانات المتنوعة، ولا مس بقيم التسامح التي تكفل للجميع احترام معتقدات الآخر. وقد حرص الآباء المؤسسون للهند المعاصرة من أمثال غاندي ونهرو وآخرين على الالتزام بقيم التعايش الديني وتكريسها في الدستور بعد سنوات وعقود من الصراعات انتهت بتضمين مبادئ الليبرالية العلمانية في الوثيقة الأساسية والتنصيص عليها بعبارات صريحة وواضحة تقطع الطريق على التعصب والإقصاء، فتحت قيادة "نهرو"، ولاحقاً بقيادة خلفائه على رأس حزب "المؤتمر" تم رسمياً تبني مبدأ الدولة العلمانية في الدستور باعتباره الطريق الأمثل لتحقيق الحداثة السياسية والوحدة الوطنية. لكن العلمانية المتبعة في الهند، ليست تلك التي تروم إقصاء الدين من الفضاء العام وتهميشه، بل فُهمت على أنها النظام الذي يسمح بالتعددية الدينية والثقافية دون تفضيل معتقد على آخر، وهكذا نصت الفقرة 295 من الدستور الهندي على أن كل من يحاول بسوء نية وبقصد مبيت المس بالمشاعر الدينية لفئة من المواطنين سواء بالكلمة المكتوبة، أو المنطوقة، أو باستخدام علامات معينة، أو سب ومحاولة القيام بذلك سيكون تحت طائلة القانون الذي يعاقب إما بالسجن لمدة ثلاث سنوات على الإساءة للمشاعر الدينية، أو الغرامة، أو هما معاً، هذا النص الصريح في الدستور يفسر إلى حد كبير الطريقة التي تعاملت بها السلطات الهندية الرسمية مع الفيلم المسيء للإسلام، الذي تسبب في خروج مظاهرات حاشدة اجتاحت العالم. فقد اتخذت الحكومة الهندية إجراءات سريعة لم تكتفِ بحظر بث الفيلم في الهند، بل امتدت إلى حجب المواقع التي كانت تبث مقاطع من الفيلم المسيء، ووجهت الحكومة أيضاً تعليماتها الواضحة إلى شركات الإنترنت والاتصالات باتخاذ كافة التدابير اللازمة بما فيها حجب موقعي "فيسبوك" و"يوتيوب" لضمان عدم توزيع الفيلم المثير ونشره بين الناس. وبالإضافة إلى الإسراع في اتخاذ مثل هذه الإجراءات أدانت الحكومة الهندية بأقوى العبارات الممكنة مضمون الفيلم وما جاء فيه من إساءة للدين الإسلامي مست بمشاعر أكثر من مليار مسلم حول العالم، ولم يقتصر الأمر على الجهات الرسمية التي قامت بالواجب وأكثر في عرض موقفها الواضح من الفيلم، بل امتد التنديد إلى ممثلي الديانات الأخرى في الهند وأطياف من المجتمع المدني الذي رفض التطاول على الإسلام مهما كان المسمى. ورغم خروج مظاهرات في بعض الولايات الهندية احتجاجاً على الإساءة، فإنها كانت في أغلبها مظاهرات سلمية بفضل تضافر جهود علماء الدين المسلمين الذين حرصوا أشد الحرص على سلمية الاحتجاج حتى لا تلصق بالإسلام تهمة العنف. والحقيقة أن الهند بما هي من ديمقراطية عريقة تفتخر بطابعها العلماني واحترامها للأديان، بل إن أول من نادى بحظر رواية سلمان رشدي المسيئة كان الصفحي الهندي السيخي، "خوشوانت سنج"، الذي طلبت منه صحيفته عرض الرواية فرفض ذلك وطالب بمنع توزيع الكتاب في الهند لما يحمله من إساءة واضحة للدين الإسلامي، فكانت الهند أول بلد يحظر الرواية التي ما زالت ممنوعة حتى اليوم، وذلك كله لأن الهنود يؤمنون بأن حرية التعبير لا يجب أن تعني تحقير ديانات الآخرين وجرح المشاعر الدينية للمؤمنين بتجاوز الحدود والتسبب في الأذى، هذا المبدأ الراسخ في الهند بعدم التعرض للأديان جعلها أحياناً في موقف حرج لإقامة التوازن الدقيق بين حرية التعبير التي ينص عليها أيضاً الدستور وعدم تحقير الأديان بما يسيء لأتباعها ويزعزع الأمن العام، لا سيما في ظل الصعوبة المرتبطة بالتحكم في الإنترنت وتقنين محتواها. وقد طفى هذا الموضوع على السطح في السنة الماضية عندما عقد وزير الاتصال الهندي، السيد كابيل سيبال، اجتماعات مع شركات الاتصالات على خلفية ظهور بعض الصور المسيئة للمشاعر الدينية وسخريتها من بعض "آلهة الهندوس". ورغم الانتقادات التي وُجهت للحكومة الهندية لتحكمها في محتوى الإنترنت وتدخلها أحياناً لحذف صور مسيئة، فإن الخطوة رحبت بها أيضاً شرائح واسعة من المجتمع الهندي باعتبارها إجراء لا بد منه لمنع اندلاع العنف وحماية النسيج المجتمعي المتنوع، وهو بالفعل ما أظهره رد الفعل السريع للحكومة الهندية إزاء الفيلم الأخير المسيء للإسلام، حيث أثبت أن منع بث لقطات من الفيلم وحجب المواقع التي حملته لم يساهم في تفادي بعض مظاهر العنف فحسب، بل رسخ قيم التعايش السلمي بين الهنود من أتباع الديانات المختلفة.