لقيت إساءة معاملة الأسرى العراقيين في سجن أبو غريب سيئ الصيت، شجباً على نطاق العالم بأسره. ومن جانبها، فقد أمرت واشنطن بإجراء تحقيق حول تلك الممارسات، وحاكمت أولئك الذين أساءوا إلى سجنائهم. غير أن المشكلة أن هناك سجون "أبو غريب" أخرى سيئة الصيت، لا ينتبه إليها أحد. ذلك أن إسلام أباد، تعد إحدى العواصم، التي يمارس فيها التعذيب كوسيلة للتحقيق مع المتهمين واستنطاقهم، على رغم لا قانونية هذا الإجراء. ففي لجوئهم إلى التعذيب، يحول القائمون على تنفيذ القانون، أنفسهم إلى خارقين له. ويخلق هذا بدوره ثقافة سائدة، هي ثقافة اللاقانون. وفي النسيج الاجتماعي كله للبلاد، تسود الرسالة القائلة "القوة هي الحق". ومع تلاشي العدل والقانون، يقع الأبرياء قيد الأسر، بينما تختفي آثار المجرمين الحقيقيين. وفي أحيان كثيرة، تطرح جانباً شروط التقيد بالإجراءات الصحيحة في تقديم الاتهامات ومحاكمة المجرمين. فالكثير من المتهمين يلقون حتفهم تحت تعذيب قوات الشرطة، وغالباً ما تسمى مثل هذه الاغتيالات بالموت الطبيعي نتيجة الإصابة بنوبة قلبية. آخر ضحايا هذه الممارسات هو كاري نور، المتهم بأنه إرهابي تابع لتنظيم القاعدة. وبموته فلا أحد يعلم الآن، ما إذا كانت له صلة بتنظيم القاعدة، وما إذا كان جرمه يتناسب وعقوبة الإعدام التي نفذها بحقه رجال القانون، حتى دون أن يحاكموه!
ولكن ما يجب قوله، هو أن كاري نور، ليس المتهم الوحيد الذي لفظ أنفاسه تحت تعذيب رجال الشرطة الباكستانية. فقبل ثلاث سنوات من اليوم، مات كذلك المواطن ميان أرشاد، تحت تعذيب جلادي مكتب المحاسبة الوطني، من أجل عرقلة المعارضة الديمقراطية. ووصف موته أيضاً بأنه ناتج عن "نوبة قلبية"! كما تم اغتيال الفلاحين المأجورين الذين يعملون في مزارع أوكارا العسكرية، وحال الضباط الذين يسيئون استغلال وظائفهم، دون تشريح جثثهم وإجراءات دفنهم، الأمر الذي دعا منظمة "هيومان رايتس ووتش" إلى المطالبة بمحاكمتهم. ولما كان النظام الحاكم في إسلام أباد، يكثر الحديث عن صلاح الحكم، فإن عليه أن يخطو خطوة أبعد من مجرد الحديث، ويشرع بمحاكمة أولئك المسؤولين الذين يخرقون القانون.
قبل سبع سنوات من الآن، اغتيل مرتضى بوتو، شقيق رئيسة وزراء البلاد. إثر ذلك، أوقف فريق تحقيق بريطاني، من مباشرة مهامه لإجراء تحقيق شامل حول الحادث. إلى ذلك، استخدمت سلطات تنفيذ القانون المحلية، وسائل بشعة وحشية، في محاولة تلفيق تهمة، ترمي إلى محاكمة مسؤولي الإدارة الحاكمة آنذاك. وسرعان ما تحول الهدف إلى هدف سياسي، بدلا من تقديم المجرمين أمام العدالة. وضمن ذلك جرى اعتقال زوج رئيسة الوزراء، بغية صرف أنظار الجمهور عن المقالب السياسية التي كانت تدبر لها في الخفاء.
وحسب علمي، فإن الديمقراطية هي أكثر من مجرد الإدلاء بالأصوات في يوم الانتخابات. ذلك أن الديمقراطية، إنما تعني في الأساس المسؤولية. وكي يشعر المواطنون بالطمأنينة والأمان، فإنه لا مناص من توفر جهاز لتنفيذ العدالة والقانون، تنطبق عليه شروط الحيدة والاستقلالية. ومما لا شك فيه أن هناك الكثير من الموظفين الشباب، العاملين في أجهزة تنفيذ القانون هذه، ممن يبدون رغبة في أداء عملهم بأقصى ما تكون عليه النزاهة والأمانة المهنية. غير أنهم يصابون بخيبة الأمل والإحباط، عندما يرون أن الذين يصعدون الدرجات العليا للسلم الوظيفي، هم عينهم الذين يقتلون القانون، تحقيقاً لمكاسب ومآرب سياسية. وكي تستطيع إسلام أباد خلق مجتمع عادل يحتكم إلى سلطة القانون بالفعل، فإن عليها أن تواجه هذا الواقع القبيح القائم الآن. وفي مقدور لجنة للحقيقة والمصالحة، أن تكون خطوة إلى الأمام في الاتجاه الصحيح. ذلك أن في وسعها إنصاف ضحايا وحشية جهاز الدولة، فتعرض المسؤولين عن ارتكاب تلك الوحشية للمساءلة، فتفتح الطريق أمام سيادة العدل وحكم القانون في البلاد.
خلال شهر أغسطس المنصرم، اعترف رئيس الوزراء شجاعت عزيز بأن تهمة المخدرات المثارة ضد آصف علي زرداري، هي تهمة ملفقة. ومع ذلك فإن إجراءاتها لا تزال مستمرة! وكان قد جرى تعذيب أفراد كثيرين، كي يشاركوا في توريط زرداري. غير أن تصريح رئيس الوزراء، ربما يكون عاملا مساعداً في تغيير نظام التحريات المعمول به حالياً، فيما إذا كان يصب في هذا الاتجاه أصلا. بالمقارنة، فقد تبنت المجتمعات الغربية نظام حكم القانون، فاستطاعت أن تحرز ما أحرزته من تقدم. بيد أن مفهوم حكم القانون، ليس امتيازاً قاصراً على الغرب وحده. فقد كان مفهوم العدل وحكم القانون كامناً في قلب الإسلام، عندما جاء لتحرير البشر من التخلف الذي كانوا يرزحون فيه.
ولكل هذه الاعتبارات، فإنه لمن المؤلم والمحزن جداً، أن يغض الطرف عن جرائم التعذيب وممارسة الظلم وانعدام العدل، في دولة باكستان الحديثة، بصفتها ثاني أكبر دولة إسلامية في العالم بأسره. وفي عالمنا الحالي، فإن المسلمين يعانون مضاعفات أزمة هوية. ويشير الكثيرون منهم إلى تراث التسامح والعدالة في تاريخ الإسلام.