وقت كتابة هذا المقال، تشارف ألعاب أولمبياد المعاقين بلندن على الانتهاء، وأستخدم كلمة المعاقين هنا لاستخدامها الرسمي، فالأفضل تسميتها الأولمبياد الموازي- كترجمة غير حرفية لكلمة PARALYMPICS الإنجليزية، ففي الكلمة اعتبار وتقدير لهؤلاء العظماء الذين يصدق فيهم قول أبي الطيب المتنبي: إذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام إنسان بلا أقدام يسابق الريح بأرجل صناعية ويركض مائة متر بأربعين ثانية! فريق بترت أرجله يلعب كرة السلة على كراس متحركة، وآخر ينافس فريقاً مشابهاً بمباراة لكرة الطائرة، وفريق فقد البصر- لا البصيرة- يتنافس ركضاً على مضمار سباق المبصرين، وذاك يسبح كالسمك بالماء رغم فقدان السمع، ومقعد يرمي الجلة على مسافات بعيدة علها تكون الأبعد ليفوز بالميدالية الذهبية، وفارسة على صهوة جواد تقفز الحواجز. لاعب بترت ذراعيه ينافس في رمي السهام باستخدام أسنانه وقدميه، وواحدة فقدت قدميها في هجمات 7-7-2005 الإرهابية التي ارتكبت بلندن، لم يقعدها الإرهاب ولا الإعاقة من المشاركة والمنافسة بالألعاب الأولمبية الموازية، متغلبة بذلك على إعاقتها البدنية وموجهة ضربة قاضية للإرهاب والإرهابيين ومن دعمهم: لن نستسلم لكم، ولن تخيفنا هجماتكم الإرهابية، ولن تعيقونا بإرهابكم حتى وإن بترتم أعضاءنا، فأنتم أعداء الحياة، ونحن أعداء الموت والإعاقة ومحبو الحياة وأصدقاء الأمل والتفاؤل. غيرت الألعاب الأولمبية الموازية الصورة تماماً عن أصحاب الاحتياجات الخاصة، فجرت كوامن وقدرات لا يعرف عنها من لا يعيش الإعاقة، أخرجت إبداعات بدنية وأداء إنسانياً أبهر المتابعين وأدهش غير المعاقين، وفرض احتراماً مضاعفاً وجديداً لآدمية هذه الفئة من البشر الذي مارسوا حياتهم بتفوق وتجاوزوا الإعاقة البدنية، بشحذ القدرات الذهنية الكامنة، وتفوقوا على من لا يعاني إعاقة بدنية بأدائهم الرياضي. كلما شاهدت الألعاب الأولمبية الموازية تذكرت صديقي فالح الحسيني الذي أصيب بحادثة سيارة حين كنا طلاباً بالثانوية قبل أكثر من ثلاثين عاماً، الإصابة أقعدت فالح في ذلك الحادث، أقول أقعدته ولكنها لم تعيقه أبداً، فقد تعامل فالح مع تلك الإصابة بالصبر والتفاؤل والإيمان بقدرته على تفجير طاقاته الكامنة كإنسان، وترجم ذلك الصبر إلى عمل ومثابرة وإيمان بقدرته وآدميته، متجاوزاً إصابته البدنية التي قرر ألا تكون عائقاً أمام طموحه كإنسان. فراح يمارس حياته الطبيعية مثل باقي البشر دون الحاجة للوقوف على قدميه، أكمل دراسته الجامعية، قاد ولا يزال يقود سيارته ويواظب على عمله مبرمجاً للكمبيوتر، ويعيش الحياة بطولها وعرضها مثل أي إنسان آخر يمشي على قدميه، يسافر في إجازته إلى بلدان العالم المختلفة، وإن كان يفضل تلك الدول التي تنحني أرصفة شوارعها أمام عجلتي كرسيه المتحرك، ويعامل فيها من أصيب بإعاقة بدنية معاملة الآخر بالتساوي وبآدمية تلقائية. كل هذا وما يميز فالح، ولم يفارقه منذ أن عرفته: ابتسامته التي لا تفارقه قبل الحادث الأليم وبعده، هي سمة يعرف بها لكنها من أسلحته الفتاكة التي تجاوز بها الإعاقة البدنية. بعد أن تهندم بما يجود به الغرب من غتر سويسرية وعقال إنجليزي ودشداشة حريرية وحذاء إسباني ورش عطراً فرنسياً قبل أن يلبس نظارة أرماني الإيطالية، قرأ دعاء الركوب المعلق بالمرآة الخلفية ثم انطلق كالسهم يسابق الريح بسيارته الألمانية وأدار مقود سيارته في مواقف مجمع تجاري كي يشرب قهوة فرنسية، وكان أقرب المواقف لمدخل المجمع مخصصة للمعاقين، لم يتردد بالوقوف في أولها تجنباً للحرارة والرطوبة وممارسة لبلادة الكسل المزمن، نزل من السيارة كالفقمة يهتز مكتنزاً شحماً ولحماً، ودخل المجتمع دون اكتراث أو شعور بغيره. قلت لنفسي: لا بد من تعريف جديد للإعاقة! سعد بن طفلة العجمي