حين عقد أول مؤتمر لحركة عدم الانحياز عام 1955 بمدينة باندونج الإندونيسية، كان العالم منقسماً بين معسكرين يخوضان حرباً باردة -المعسكر الاشتراكي الشرقي والغربي الرأسمالي. سقط الاتحاد السوفييتي ومعه انهار المعسكر الشرقي وبالتالي فإن من المنطقي أن يتلاشى الانحياز من عدمه بين معسكرين أسست الحركة ضد الانحياز لأي منهما، كما مات زعماء العالم الذين لم يرغبوا بالانحياز في ذلك الوقت مثل جمال عبدالناصر وجواهر لال نهرو وتيتو وبقي مؤتمر عدم الانحياز ينعقد ببلادة. الرئاسة الدورية للمؤتمر وصلت إلى طهران التي تعيش عزلة دولية لا يشابهها سوى حالة العزلة التي تعيشها كوريا الشمالية أو يعيشها نظام بشار الأسد. فوجدت طهران في المؤتمر فرصة علاقات عامة تحاول من خلالها كسر هذه العزلة، ولتوهم الكثير من البسطاء داخل إيران نفسها بأن الأمور على ما يرام، فها هي عشرات الدول في العالم تفد وفودها من كل حدب وصوب على رغم استمرار إيران ببرنامجها النووي وتبنيها سياسة التصدي للشيطان الأكبر -أميركا- ودعمها لمقاومة إسرائيل. يكفي إيران انعقاد المؤتمر بطهران لإيصال هذه الرسالة وبحضور أمين عام الأمم المتحدة "بان كي مون" الذي قاوم ضغوطاً أميركية وإسرائيلية بعدم الحضور، صحيح أنه قال كلاماً مزعجاً لطهران في عقر دارها مطالباً إياها الالتزام بقرارات مجلس الأمن بشأن برنامجها النووي وتعاونها مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة النووية، لكنه حضر وهذا هو المهم. لعل المشارك الأكثر حظوة في إعلام المؤتمر هو الرئيس المصري محمد مرسي، فزيارة رئيس مصر لطهران هي الأولى منذ اندلاع ثورة إيران وقطع العلاقات بين البلدين بعد استضافة مصر السادات للشاه، وفتوى الخميني التي حرمت العلاقات مع مصر بعد اتفاقات كامب ديفيد. الزيارة المصرية نجاح إيراني بمجيء رئيس أكبر دولة عربية لطهران، لكنها نجاح مصري أكبر، فمرسي قال لإيران ما لم تكن ترغب سماعه عن سوريا: نظامها ظالم وعلينا جميعاً إعانة الشعب السوري على التخلص منه، وهذا يعني أنكم في إيران لا تقفون في صف المستضعفين، لكنكم تقفون في صف الظلم، وهو أكبر إهانة لإيران التي أشاعت منذ تسلم الملالي حكمها أنها ثورة المستضعفين، وهي إشاعة أسقط آخر أوراق توتها شلال الدم السوري الذي تساعد إيران على سفكه بوقوفها ومساندتها المعلنة لنظام يقصف شعبه ومدنه وقراه بالطيران. الموقف المصري من الثورة السورية بطهران كان بمثابة قطبية إقليمية جديدة بين مصر وإيران، وهو موقف سيتعزز بسقوط بشار الحتمي، ومع تطورات الوضع العراقي الذي يعيش أزمات دامية متتالية، وربما بأشكال خطاب مزايدة إيرانية على القضية الفلسطينية التي تحكم الموقف المصري منها اتفاقات كامب ديفيد واستمرارها حتى بعد وصول "الإخوان المسلمين" للحكم. وضمن فرض الهيبة على الداخل، يبحث مرسي عن استعادة الدور المصري العربي الأفريقي والإسلامي، وهو طموح يتعارض حتماً مع محاولات إيران للهيمنة على المنطقة. يتريث البعض في اعتبار زيارة مرسي لطهران نهاية قطيعة، فالعلاقات تحكمها مبادئ الدبلوماسية، وإيران هي التي بدأت بقطع العلاقات، فمن المنطق الدبلوماسي أن تبدأ بإعادتها، ولكن طلبها بعودتها يعني العودة عن فتوى للراحل الخميني بتحريم العلاقة مع مصر في ظل كامب ديفيد، وهو ما قد يفتح الباب على مراجعة فتاوى أخرى وإلغائها، الأمر الذي يصعب تخيله في دولة إيران الدينية. لم يعرْ العالم أهمية لما تمخض عنه المؤتمر من قرارات أو بيان ختامي، فمنظمة عدم الانحياز عقدت في دولة منحازة لنظام يقصف شعبَه ليل نهار، والحديث عن عدم الانحياز هو حديث مجاز لأن المضيف منحاز بامتياز.