إن اللغات تموت وهذه حقيقة ثابتة، وإنْ كانت اليوم تموت ببطء حيث إن أجزاء من كلماتها تموت وتموت لتموت اللغة في النهاية، أو لتصبح اللغة شبه ميتة علمياً وثقافياً واتصالياً. وهذا، في مقابل لغات لا تموت بل آخذة في الانتشار حول المجتمعات والدول. على هذا المنطق، يطرح عالم اللغات البريطاني ديفيد كريستال أن 94 في المئة من سكان العالم يستخدم 4 في المئة من لغات العالم في مقابل 96 في المئة من لغات العالم يستخدمها فقط 6 في المئة من سكان العالم. هذه النسبة التي يجادل بها ديفيد كريستال "صاحب كتاب موت اللغة" تعتبر خطيرة جداً على العالم ومستقبله في الأمن والسلام. فهذا العالم مكون من دول ومجتمعات وثقافات تلعب اللغة فيها دور المكون الأساسي لثقافاتها، فاللغة والهوية تقتربان من الترادف، حيث يرمى بالهوية في الغالب إلى هوية المجتمع، وذلك يقود إلى حقيقة أن تأسيس الكيانات الاجتماعية والسياسية يقوم على أساس لغوي لأن اللغة لسان التاريخ والدين والثقافات والجغرافيا إلى حد ما، كما أنها جامعة للأعراق. ولقد كانت اللغة عاملاً حاسماً في التمييز بين العدو والصديق في زمن الحروب. ومن الطبيعي أن تموت اللغات لأسباب عدة أهمها موت المتحدثين بها بدون جيل يرثها، وإنْ دونت في كتب وهذا يحدث وحدث مع لغات بعض الحضارات والمجتمعات في العالم، كما أن موت الكلمات مع إدخال كلمات أجنبية في مجال العلوم والاتصال الرسمي يؤدي إلى موت جزء كبير من اللغة، حيث تصبح اللغة غير فعالة. وفي صورة أخرى تموت اللغة عندما لا تصبح لغة العلم والبحث ولغة الاتصال الرسمي وتحيا لغة أخرى كونها الاتصال والعلم لدى عامة الناس في مجتمع معين. حقيقةً، إن مسألة انقراض اللغات لا يعني ذهاب جهاز الاتصال بين أفراد المجتمع الواحد، وإنما يعني انقراض أمة وضياع ثقافة، ولهذا السبب نلاحظ انبعاثاً كبيراً للهويات القومية والعرقية -أما المذهبية فأمرها يرجع إلى الدين وما يخلق من هويات فكرية وسياسية في قالب المذهبية- وانبعاث الهويات القومية نابع من حالات ردع هيمنة اللغات الغالبة على المغلوبة في مستواها الداخلي كإطار يتم داخل الدولة الواحدة وأيضاً على مستوى الخارجي بين المجتمعات في دول مختلفة. فاللغة الإنجليزية التي أصبحت اليوم لغة العلوم والمعارف والاتصال والتواصل بين مختلفي اللغات والثقافات والدول، قد عانت بل كادت تنقرض، ففي وقت سطوة النورمانديين على السلطة في بريطانيا، حدث نوع من هيمنة اللغة الفرنسية على الإنجليزية، حيث أصبحت اللغة الفرنسية لغة النخبة المستعملة في المحاكم والمحافل الرسمية والدينية والإدارات مع بقاء أغلبية السكان على لغتهم الأم. وبعد ضم "النورماندي" إلى فرنسا- كان لا بد للطبقة النورماندية في بريطانيا إما أن تعود إلى فرنسا أو تعتمد على الإنجليزية كلغة رسمية لكي تكون مستقلة بهويتها ونظامها السياسي. أجل اللغة تحمل بعداً في العلاقات الدولية في خلق الاستقرار داخل الدول وأيضاً بين الدول. فعلى المستوى الداخلي للدول لا توجد دول متجانسة في طبيعة سكانها، بل هنا تفاوت في قوة التجانس لدى الدول، وقوة التجانس ترجع إلى مدى توافر المرجع الواحد في العرق والدين واللغة والثقافات، لذا التعددية العرقية والدينية واللغوية دليل على عدم التجانس، فإذا وضعت قوانين للتعددية في أي دولة لا بد وأن تكون فيها لغة أوديانة أوثقافة بعينها لها سلطة تعلو غيرها. ففي الشرق الأوسط، أصبحت اللغة العربية في دولها تواجه تحديات تنعكس على عدم استقرار بعض الدول العربية، فعلى سبيل المثال، المغرب العربي يحمل لغتين محليتين "الأمازيغية والعربية"، كما أن العراق وسوريا أصبحت العربية فيهما تواجه القومية الكردية، وهذه الدول غير مستقرة، وستتغير جغرافياً وإدارياً ببروز القوميات ذات الألسن المختلفة. كما في الشرق الأوسط تركيا التي تحمل خليطاً من اللغات، فهناك التركية والكردية والعربية والأذرية، لكن اللغة الرسمية والدارجة إلى حد كبير جداً اللغة التركية، وكما هو معروف تواجه أنقرة مطالب الأكراد في كيان شبه مستقل وإقرار اللغة الكردية في المدارس. وربما إيران في قالب خطير جداً فهي متعددة الأعراق واللغات، كما أن طموحها المذهبي لا يخدم قوميتها الفارسية بأي حال من الأحوال. وهناك أحداث تاريخية مهمة في شأن اللغة وتَكون الدول، فاستقلال بنجلاديش عن باكستان كان راجعاً في جزء مهم منه إلى قرار "محمد علي جناح" بجعل الأوردية اللغة الرسمية للبلاد، وشكل هذا ضربة للإحساس القومي لسكان بنجلاديش الذين يتكلمون اللغة البنجالية كما كان هناك دعم هندي لولادة دولة بين الهند وباكستان. وها هي جنوب السودان فرغم وجود لغات متعددة لسكانها، تعتمد على اللغة الإنجليزية كلغة رسمية أي حكمت بإعدام على لغاتها المحلية، والمستقبل كفيل في تنفيذ الحكم. وفي كندا أصبح الكيبيكيين يمثلون خاصية إقليم كيبك الكندي من خلال اللغة الفرنسية والمذهب الكاثوليكي. وهناك حالات استثنائية في الوطن العربي كالمسيحيين العرب، فرغم دور اللغة العربية، فإن عامل الدين جعل لبعضهم اتصال مع الخارج في إطار معين، كدول ومنظمات وجمعيات، ولكون الأديان تضم لغات متعددة مثال (الدين الإسلامي والمسيحي) ولها دور سياسي مهم. أما في مستوى العلاقات بين الدول، حقيقةً نستطيع أن نلمس دور اللغة في الخريطة السياسية كالعالم العربي والدول التي تتحدث الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، ومن ناحية أخرى يمكن أخذ تقسيم عدد سكان العالم حسب اللغات لتخرج لنا الصين، وهذا التقسيم يقود إلى زحم العلاقات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية بين الدول والمجتمعات، والذي بدوره يأخذ صوراً من التنافس والتعاون والصراع أيضاً. رغم هذا، تخفف العلاقات الدولية من عامل اللغة لأنها تعتمد على العلمانية والبراجماتية كنهج يحقق المصالح للدول. نحن أصبحنا أمام نظرية تفترض بأن "كلما قلت اللغات كلما كثرت الصراعات والحروب بين الدول" لأن اللغات تعكس أعراقاً وحضارات وثقافات ودولاً بعينها. تصور معنا قصراً كبيراً يملكهُ خمسة عشر شخصاً وقصراً آخر يملكه أربعة أشخاص، ففي الحالة الثانية يكون احتمالية الصراع والصدام أكبر وأشد من خلال واقعية القدرة على الاستحواذ والسيطرة على القصر وكل ما يحتويه، وما القصر هنا إلا كوكب الأرض، أما الحالة الأولى لا أحد يستطيع السيطرة لإمكانية التحالفات بين الأطراف لخلق ردع يمنع سيطرة أي طرف. ما نعاصره اليوم في عالمنا العربي، أن أصبحت اللغة العربية ضعيفة في الحضور الدولي والعلمي، وحقاً يخطئ من يقول إن اللغة العربية تسير على خطى الريادة في الانتشار، ففي الأمم المتحدة هناك رأي بإلغاء اللغة العربية كلغة رسمية من لغات المنظمة العالمية وذلك لأن الوفود العربية إما أنها تتحدث اللغة الإنجليزية أو الفرنسية. كما أن العلوم والمعارف أصبحت لدى الجيل الحالي ذات لغات غير عربية، وهذا يرجع إلى كون اللغة العربية ليست في دورها الطبيعي في مجالات العلوم التطبيقية والاجتماعية، والذي يفترض به أن يكون للغة حضارية ودينية وإنسانية كبيرة في تاريخها وفي جغرافيتها. وهنا لا بد أن يكون هناك سياسات تبعث من جديد اللغة العربية كلغة علمية وثقافية مهمة داخلياً-أولاً- وخارجياً.