مسيحيو مصر والحاكم ... من المنشأ حتى الثورة
مع دخول المسيحية إلى مصر في سنة 60 ميلادية، بدأت مرحلة جديدة، تم فيها نزع الألوهية أو التقديس عن الحكام، لدى الأغلبية، وإن ظل الوثنيون على تصوراتهم القديمة، لكن بدرجة أقل. وكان التحول الأكبر حين اعترف الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس بالمسيحية سنة 379 م دينا رسميا للدولة، فقويت شوكة مسيحيي مصر في مواجهة الوثنيين، حتى تم القضاء عليهم نهائيا، بإغلاق جامعة أثينا الوثنية في عهد الإمبراطور جستينان (527 ـ 565 م) لتبدأ صفحة جديدة من كفاح مسيحيي مصر ضد الرومان المختلفين معهم مذهبيا، والذين اضطهدوهم ليحملوهم قسرا على اعتناق فكرة الطبيعة المزدوجة (الإلهية والبشرية) للسيد المسيح.
ففي تاريخ كفاح المصريين ضد الطغيان ونزعتهم إلى الاحتجاج الدائم جاء الدور على الرومان ليذوقوا نوعا آخر من هذا الكفاح، حيث وجد المسيحيون المصريون في تمسكهم بالمذهب الذي اعتنقوه من المسيحية نوعا من الاحتجاج ضد وثنية الرومانيين، وقطيعة رمزية كاملة وعميقة مع منطقهم الاستعماري. فلما اعتنق إمبراطور الرومان المسيحية، وجعلها الدين الرسمي لإمبراطوريته مترامية الأطراف، وجد المصريون أنفسهم أمام مأزق شديد، لكنهم سرعان ما وجدوا مسارا لمواصلة كفاحهم، حين ميزوا مذهبهم الديني عن مذهب الرومان، فتواصل النضال ضدهم، وقدم الأقباط شهداء لا حصر لهم، ولم تتراخ عزيمتهم في الدفاع عن رؤيتهم الدينية، رغم مغالاة أعدائهم في اضطهادهم، بل أشعلوا حركات مقاومة متفرقة، فيما هب الصعيد في ثورة عارمة ضد حكم دقلديانوس.
ومسيحيو مصر لم يبجلوا حكام الرومان كما كان عليه الحال من قبل، بل قاوموهم وقدموا في سبيل اعتقادهم عدداً من الشهداء خلال أربعة قرون كاملة، لا يقل إن لم يزد، على أعداد الشهداء الذين قدمتهم كل البلاد المعروفة في أنحاء العالم الروماني في تلك الحقبة. وغلب على مقاومة المصريين آنذاك طابع "العصيان المدني"، حيث كان الفلاحون يتركون أرضهم حين تثقل السلطات الرومانية كاهلهم بالضرائب. وكان الفنانون يغطون الرسوم الدينية الرومانية، ويعيدون رسم الأيقونات القبطية عليها، وكان الموسيقيون يعزفون في الصلوات الكنسية ألحانا مصرية كهنوتية قديمة، وليست الألحان الرومانية.
وانتقل التبجيل إلى رجال الدين أنفسهم، الذين كان يقول الواحد منهم عند توليه البابوية: "افتحوا لي أبواب البر"، وزادت درجة هذا التبجيل بعد أن حمل البطريرك في القرن الثالث الميلادي لقب بابا، يعاونه عشرون أسقفا في خدمة الكرازة. أما العلاقة بالحكام فقد حكمها المبدأ المسيحي الذي يقول "ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".
وإذا كان المسيحيون المصريون لم يفتقدوا التصميم العنيد بحماية هويتهم الثقافية ضد الرومان، فإنهم افتقروا إلى توظيف سلاح المعرفة والعلم للخلاص من الحكم الأجنبي. ومن ثم لم نسمع طوال الحكم البيزنطي أن أحدا من أبناء الشعب النابهين ظهر لينقذ البلاد من براثن الاستعمار الأجنبي، أو يحد من نشاطهم الهدام، أو يطالب باحقيته في الحكم. أما القيادات الدينية فما كان في وسعها أن تحل مشكلة غياب القيادة المؤهلة للخروج بالمجتمع من أزمته. فالبطريرك، وقد سلمه الشعب قيادته، كان يمنعه مركزه الديني، وكرامته الوطنية، من الخضوع لإرادة الأباطرة، ولكن كان مضطرا إلى مسايرتهم.
ولما فتح المسلمون مصر أحدثوا تحولا أكبر عن الماضي فيما يتعلق بتقديس الحكام. فعلى مستوى النص يمنع الإسلام اتخاذ الحكام أربابا من دون الله، وهو أن كان يأمر بطاعة أولي الأمر، فإنه يجعل ذلك مشروطا بعدلهم وتقواهم وعملهم للخير والحق، كما أنه لا يحصر أولي الأمر في أهل الحكم. وقد أثر هذا التصور، بشكل أو بآخر، على المسيحيين المصريين، الذين تفاعلوا بإيجابية مع الثقافة الإسلامية.
أما على مستوى الممارسة فتضاءل تقديس الحكام في مصر إلى تبجيلهم، لكن في صورة تختلف كثيرا عن "الفرعونية السياسية" التي كانت سائدة في مصر القديمة. فالرابطة السياسية الإيمانية التي أوجدها الإسلام، تشكل إطارا مناقضا للفرعونية السياسية التي تقوم على أن فرعون طاغية، وأعوانه ظلمة وهمج رعاع.
ومنذ السنوات الأولى لدخول الإسلام إلى البلاد رأى المصريون كيف عوقب حاكمهم حين اعتقد أنه متميز عنهم، وذلك حين اقتص خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حاكم مصر عمرو ابن العاص، جراء قيام ابن الأخير بضرب صبي مسيحي فاز عليه في سباق الخيل، وتقاعس ابن العاص عن أن يأخذ للمسيحي حقه، ما دفعه إلى أن يشكوَ إلى ابن الخطاب، الذي جعل المسيحي يضرب نجل عمرو.
لكن انتهاء مرحلة تأليه الحاكم لم يتبعها تحرر نفسي كامل من الشعور بالضعة حيال الحاكم، أو كف عن النظر إليه على أنه شخص غير عادي، أو أنه بيده النفع والضرر، أو الثواب والعقاب، وأنه قدرته على فعل أشياء كثيرة لا حدود لها. ولقد عبر المؤرخ المرموق شفيق غربال عن هذا الأمر قائلًا: "لقد تحرر المصري بفضل المسيحية والإسلام من ربقة الخرافة والعبودية لغير الخالق، وتحرر الشعب من رق المقدونيين والرومان. ومع ذلك فإن هذا الفرد المتحرر لم ينل الحرية التي تتيح له فرص اكتمال شخصيته، فقد بقي التمييز والتفرقة ما بين الحاكم والمحكوم قائما، وحال ذلك دون تمتع الفرد بنصيبه الكامل من الجزاء والمسؤولية".
وجاءت ثورة 25 يناير لتقلب هذه المعادلة رأسا على عقب، فمن يطالع شعارات وهتافات ميادين التحرير، ويطالع ما يطلقه الشباب في الفضاء الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي، يكتشف للوهلة الأولى أن السخرية من الحاكم لم تعد عملا سريا أو موروثا شعبيا خفيا، بل باتت ظاهرة كاسحة تفرض نفسها جهارا نهارا، وفي هذا لا يختلف مسيحيو مصر عن مسلميها.