سمحت السلطات بالتبشير المسيحي في اليابان في منتصف القرن السادس عشر. وتولى الجيزوت (اليسوعيون) نشرها، حيث قدر عدد المسيحيين اليابانيين عام 1579 بنحو مائة وثلاثين ألف شخص. واستخدم الحاكم الياباني "هيديوشي" المسيحية في صراعه الداخلي ضد البوذيين، لكنه انقلب على أتباع الدين الجديد لخوفه من تزايد النفوذ البرتغالي، فبدأت مرحلة الاضطهاد. وقد نُقل عنه قوله إنه لا يعترض على المسيحية، ولا يرى ما يجعله يسيء الظن بالمبشرين، لكنهم مع ذلك أجانب قدِموا من الخارج، ولا يحق لهم التهجم على آلهة اليابان! وسرعان ما اتسع نطاق الاضطهاد، حيث منعت السلطات في عام 1616 العلاقات التجارية مع العالم الخارجي، وتم في سنة 1622 إعدام نحو 120 من المبشرين ومعتنقي المسيحية، ليتلو ذلك طرد الرعايا الإسبان وسط عمليات قتل وتصفية واسعة، وتم إجبار الآلاف من المسيحيين اليابانيين على ترك المسيحية تحت طائلة التعذيب والتهديد. وفي عام 1635 صدر قرار بمنع أي ياباني من السفر إلى الخارج أو العودة إلى اليابان إن تركها مسافراً! وبلغ خوف اليابانيين من عودة المسيحية أن منعوا استيراد الكتب والمطبوعات الغربية! واضطرت اليابان بعد قرنين ونصف القرن، تحت تأثير الكثير من الضغوط الدبلوماسية، أن ترفع الحظر عام 1837 عن الديانة المسيحية. وعادت المسيحية تنتشر حيث تحول إليها نحو مائة ألف خلال بضع سنوات. غير أن التسامح مع عودة المسيحية لم تزل الشكوك لدى الوطنيين اليابانيين المتشددين الذين لم يكفوا عن الارتياب في ولاء ووطنية أتباع المسيحية، واعتبارهم من "أتباع الغرب". إلا أن المسيحية غدت مع الوقت من أدوات تحديث اليابان خلال القرن التاسع عشر. فقد عمد المبشرون إلى الاهتمام بالتعليم، وأسسوا خلال سنة واحدة من قرار السماح بعودة المسيحية إلى تأسيس جامعتين بدأتا كمعاهد أو مدارس في طوكيو، وهما اليوم جامعة "أوياما جاكوين" وجامعة "ركيو"، وتولى بعض المبشرين تدريس وإعداد بعض قادة اليابان الجدد. كان هؤلاء المبشرون من البروتستانت الأميركان شديدي الإيمان بقيم المسيحية البروتستانتية التي تؤمن بالعمل الجاد والمثابرة والمسؤولية الاجتماعية وتفضيل الالتزام الأخلاقي على التنظير الديني. وقد اعتبر اليابانيون هؤلاء رسل حضارة غربية راقية، وأعجبوا بإخلاصهم لعملهم وتحملهم المشاق في سبيل النهوض بواجباتهم، وقبولهم بأبسط الشروط المعيشية الخالية من ألوان الرفاهية المعتادة. وحمل اليسوعيون إلى اليابان أول نصوص الإنجيل المترجمة إلى اليابانية عام 1549. وفي سنة 1613 نشر المبشرون الكاثوليك ترجمة يابانية كاملة للإنجيل. كما قام المبشرون الأميركيون بترجمة الإنجيل أولاً، ثم تشكلت لجنة مسيحية متعددة المذاهب لترجمة النص الكامل للكتاب المقدس. فتحت هذه الترجمات أعين اليابانيين على موقف المسيحيين من اليهود. فالعهد الجديد (الإنجيل) يشير إلى اليهود كـ"شعب الله المختار". كما عرف اليابانيون أن المسيحية تقول بأنها قد تجاوزت اليهودية. وعرفوا كذلك نظرة المسيحية إلى اليهود من جانب آخر بأنهم من حاربوا المسيح وعاندوه، وفي النهاية قاموا والتخلص منه، كما يؤمن المسيحيون. ومنذ سنة 1900 تحديداً بدأت مرحلة جديدة من "المسيحية اليابانية" المحلية بعد تراجع بريق التبشير الأجنبي. وظهرت مع هذه المسيحية تصورات وآراء جديدة عن اليهود في اليابان، لعل أهمها ما روّج له "أوشيمورا كانزو"، الذي اعتبر اليهود شهوداً تاريخيين للإنجيل، وآراء "ناكادا جوجي" الذي نظر إلى اليهود كأمة يشكل خلاصها السياسي والعسكري والروحي وسيلة نجاة للشعب الياباني نفسه، وأخيراً رؤى "ساكي يوشيرو" (1871-1965) و"أويابي زنيشيرو" (1867-1941) اللذين آمنا بانحدار اليهود واليابانيين من أرومة وأصل واحد، وهذا هو مصدر اعتبار الشعب الياباني كذلك بمثابة شعب الله المختار! أولئك كانوا الجيل الأول لثورة الـ"ميجي" ممن تلقوا تعليمهم خليطاً من المفاهيم والقيم اليابانية والغربية. وكان العديد منهم قد درس في معاهد مسيحية، كما كانوا أول جيل ياباني يسافر إلى الخارج بعد رفع الحظر على السياحة والترحال والدراسة في البلدان الأجنبية. وكبقية النخبة اليابانية في هذه المرحلة، كانوا في غاية الحرص على دمج هويتهم الوطنية بالثقافة الغربية. ولو تأملنا نشاط الإرساليات التبشيرية في البلاد العربية خلال القرن التاسع عشر لوجدنا فيه بعض ما يماثل نشاطهم في اليابان. فقد بدأت هذه الإرساليات تفد إلى بلاد الشام في القرن السابع عشر، وكان معظم المبشرين من أتباع المذهب الكاثوليكي. وشهد القرن التاسع عشر حركة تبشيرية واسعة في البلاد العربية، نشطت في بناء المدارس وتأسيس الجمعيات العلمية والأدبية، فكانت مدرسة "عينطورة" أقدم مدارس الإرساليات في لبنان حيث أنشئت سنة 1834. وفي عام 1847 أنشأ المبشرون البروتستانت "الكلية السورية" التي كانت تدرس العلوم باللغة العربية في بداية عهدها، وتحولت فيما بعد إلى "الجامعة الأميركية" الشهيرة في بيروت. وفي العام نفسه أنشأ هؤلاء المبشرون "الجمعية السورية" في بيروت لغرض نشر العلوم وترقية الفنون بين العرب. وكان من أعضائها البارزين "ناصيف اليازجي" و"بطرس البستاني" وآخرون. وبعد حوادث الفتنة الأهلية السورية عام 1860، أخذ المبشرون ينشئون المدارس والكليات الكبرى، ومنها "الكلية الإنجيلية الأميركانية للبنات" و"الكلية الإنجليزية للبنات" وغيرهما. ولم يزد عدد التلميذات في بلاد الشام كلها عن أربعين فتاة عام 1836، لم تكن بينهن فتاة مسلمة. وكثر إنشاء مدارس البنات في بلاد الشام بعد فتنة عام 1860، وأقبلت المسلمات على الدراسة في المعاهد الجديدة. ونشطت الإرساليات في ميدان الترجمة وتحديث اللغة العربية، فترجم بطرس البستاني التوراة إلى اللغة العربية بالاشتراك مع المستشرق "إيلي سميث"، وألّف معجم "محيط المحيط" ومعجم "قطر المحيط" و"دائرة المعارف" في سبعة أجزاء، وعمل اليازجي تسع سنوات في تعريب التوراة. وهكذا ساهمت الإرساليات التبشيرية المسيحية في النهضة الأدبية والثقافية العربية، وكان لها دور في اليقظة القومية عند العرب، وأنشئت المطبعة الأميركية عام 1822 في مالطا ثم نقلت إلى بيروت عام 1834، وتأسست المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين عام 1848 وكانت تطبع على الحجر، ثم صارت تطبع على الحروف. وفي إيران كان للمبشرين أدوار مماثلة إلى جانب مساعيهم لنشر المسيحية التي لم تثمر مقارنة بمنجزاتهم في مجال التعليم والترجمة. ففي زمن الملك "فتح علي شاه" (1762-1834) قام القس"هنري مارتن" الإنجليزي بترجمة الإنجيل إلى الفارسية، ونشط في العديد من المدن مثل شيراز وطهران. وبذل الأميركان البروتستانت جهودهم التبشيرية في تبريز ابتداءً من عام 1834، ثم امتد نشاطهم إلى طهران وهمدان ورشت ومشهد وكرمانشاه. واستطاعت خدماتهم الصحية ومثابرتهم المستمرة أن تكسب الكثيرين إلى جانبهم. وكانت لهم كذلك في طهران كنيسة ومدرسة كبيرة تتبع المناهج الأميركية. ويمكن الحديث على المنوال نفسه عن نشاط المبشرين الديني والتعليمي والطبي في تركيا والصين ومناطق كثيرة أخرى. وسنعود إلى اليابان في مقال قادم، لنواصل الحديث عن التأثير المسيحي في الفكر الياباني وعلاقة ذلك بموقفهم من اليهود.