ليالي الأنس في فيينا وبرلين
الاقتصاد العالمي كالسياسة العالمية، صندوق عجائب. تسحب دُرجاً فتتدحرج ملفات شحة السيولة المالية العالمية التي تهدد بالقضاء على مصارف كبرى، وتنهال من درج آخر ملفات ثروات مالية خيالية مكدسة في خزائن المصارف. وفيما يعرض دُرج "منظمة العمل الدولية" إحصاءات البطالة المتزايدة في أقطار الوحدة الأوروبية، في الدرج نفسه ملفات عن شحة اليد العاملة في أقطار الوحدة الأوروبية الأخرى. وفي دُرج اليونان ملف الحسابات الخارجية لأساطين صناعة البواخر المتهربين من دفع ضرائب عن صناعة تحقق سنوياً 56 مليار دولار، وفيه أيضاً ملف برامج تقشف تقترح مديرة "صندوق النقد الدولي" فرضها على مواطني اليونان، وتحذرهم من التقاعس عن دفع الضرائب. ومقابل برامج التقشف على الناس العاملين، تضخ برامج "التخفيف الكمي" تريليونات الدولارات على مصارف كبرى مفلسة. وانخفاض العمالة في شهر مايو في الولايات المتحدة، والذي قد يؤثر سلباً على الاقتصاد العالمي، يحل محل توقعات زيادة العمالة في الأشهر الثلاثة الماضية. وهذه ليست مزحة، بل تقرير "نيويورك تايمز" عن اقتصاديين "يستطيعون تفسير الأرقام الكئيبة لشهر أو شهرين، لكن لا يمكن تجاهل أرقام ثلاثة أشهر متوالية". وهي، حسب الصحيفة، "دوخة" الربيع التي تفرض "أنماط تباطؤ متواترة منذ سنتين، والانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة يتطوّح للسنة الثالثة على التوالي". ومع ملفات كهذه من لا يصدق حاكماً عربياً معزولاً يُحاكمُ بتهمة الفساد ويوصي أن يحمل نعشه رؤساء أربعة بنوك سويسرية يأتمنهم على حسابه. وإذا كانت هذه نكتة، فعالم المال والاقتصاد زاخر بنكات مسلية!
عدد العاطلين عن العمل في بلدان الوحدة الأوروبية 25 مليوناً، وبدلاً من أن توحدها عملة "اليورو" التي أطلقتها عام 1997، بلغت البطالة في بعضها أعلى المستويات. وفي ألمانيا، زعيمة "اليورو"، أدنى مستوياتها. تبلغ نسبة البطالة في إسبانيا 25 في المئة، وهي الأعلى، وفي النمسا 4 في المئة، وهي الأدنى. وفي النمسا من ينسى أغنية أسمهان "ليالي الأنس في فيينا نغم في الجوّ له رنّة، سمع لها الطير بكى وغنّى"؟ المغنون والباكون سياسيون وأكاديميون وخبراء في سوق العمل من بلدان أوروبية مختلفة... يسألون النمساويين عن سر نجاحهم. ويدعو يوهان كوبف، رئيس "دائرة خدمات العمالة" في النمسا السائلين إلى أمسية في مطعم "توب لوكال" السياحي، أكله نمساوي فاخر، وهو واحد من عشرات المشاريع الاجتماعية التي تمولها الدولة لتشغيل العاطلين عن العمل، وبينهم شباب جانحون يرفضهم القطاع الخاص. لذلك يبلغ معدل فترة بطالة الأشخاص في النمسا شهرين، وفي إسبانيا عامين.
عدد العاطلين عن العمل في إسبانيا خمسة ملايين، ويتوقع ارتفاعهم إلى ستة ملايين العام المقبل، وإذا أخذنا بالاعتبار أن معظمهم شباب فأجيال بكاملها قد تُطرحُ خارج دائرة العمل، ربما إلى الأبد. والاقتصاد الإسباني قائم على قطاع واحد هو الإنشاءات، وعندما انهارت سوق العقارات بسبب أزمة اليورو، فُقد مليون و600 ألف فرصة عمل، وتُرك 800 ألف عقار خالية، تختنق المصارف الإسبانية التي تملكها بموجوداتها المسمومة. ونصف الشباب ما بين أعمار 16 و25 عاطلين عن العمل في إسبانيا واليونان، وأكثر من الثلث في البرتغال وإيطاليا وإيرلندا. وتعتبر "منظمة العمل الدولية" هؤلاء الشباب "الجيل الضائع" و"الجيل المنحوس" الذي يحرق السيارات ويقذف الحجارة على البوليس. وفي النكتة يحاصر أفراد الجيل المنحوس بنكاً أغلق أبوابه، صارخين: "الشعب يريد إعدام مدير البنك، والأشغال الشاقة لجميع الموظفين". يسأل حارس البنك: "هل خسرتم ودائعكم في البنك؟"، فيجيب منحوس: "لو خسرنا ودائعنا هل نطالب بهذه الأحكام الخفيفة"!
وإذا كانت الحياة أقصر من أن يتعلم الشخص اللغة الألمانية، حسب المثل الإنجليزي الساخر، فحياة البريطاني اليوم أقصر إن لم يتعلم الألمانية. و"على بريطانيا التعلم من ألمانيا الاقتصاد الناجح بدل تقديم المواعظ حول منطقة اليورو". يقول ذلك فينس كيبل وزير "البيزنس" البريطاني. وطريقة العمل الألمانية تتلخص بمعادلة بسيطة: "زيادة الإنفاق وقت الركود الاقتصادي، والتقشف عند الفوران الاقتصادي". بعد الانهيار المالي العالمي عام 2008 خصصت حكومتا ألمانيا والنمسا حوافز مالية للشركات التي تشغل العاطلين في أعمال وقتية، وتعيد تأهليهم، وسدّدت الفارق في مرتبات العاملين جزئياً، وعندما عاد النشاط الاقتصادي عام 2010 عاد العمال للعمالة الكاملة، ووجدت الشركات نفسها مهيأة للاستفادة سريعاً من استئناف النشاط.
لماذا يصعب على زعماء بريطانيا فهم هذه المعادلة البسيطة؟ لأنهم يديرون الدولة بعقلية عوائل أنجلوسكونية متدينة تدعو إلى شد الحزام على البطون، وتعتبر الاقتراض خطيئة، والعلاج الناجع ينبغي أن يكون مؤلماً، والتقشف عقاب جماعي. وهذا كلام فارغ حسب عالم الاقتصاد الأميركي كروجمان. البرنامج التلفزيوني الحواري "كلام عسير" جعله كروجمان عسيراً على "بي بي سي" عندما استضافه أخيراً بمناسبة صدور كتابه الجديد "انهوا الركود الآن". يلخص العنوان وضع الاقتصاد الغربي،"الهبوط" يعني الاقتصاد يهبط، و"الركود" يعني الاقتصاد هبط فعلاً، وهذا حاله الآن. ويبسط كروجمان المعادلة السهلة التي يعسر على السياسيين البريطانيين فهمها بالشكل التالي: "ما أنفقه أنا هو دخلك أنت، وما تنفقه أنت دخلي أنا. وإذا سعى كلانا لوقف الإنفاق في آن واحد فنحن نوقف مواردنا، أي أننا ننتهي بعدم توفير أي مبلغ". ويصعب على السياسيين إدراك المقارنة لأن العائلة لا تتصرف كالدولة.
وخذ الحكمة الاقتصادية من فم الأطفال. فكتوريا جرانت طفلة كندية عمرها 12 عاماً تشرح لملايين المشاهدين في "يوتيوب" كيف تُصدر البنوك الخاصة النقود من العدم وتقرضها للناس والحكومات بالفائدة. فالبنوك لا يمكنها لوجستياً الاحتفاظ بملايين النقود التي تتعامل بها يومياً، وهي لا تقرض للناس والحكومات نقوداً عينية، بل وهمية تنتجها خفقات الأنامل على مفاتيح الكمبيوتر، وتُسَجل ديوناً في حساب المقترض، وودائع في حساب البنك. السندات الحكومية هي في الحقيقة قروض استدانتها الحكومات بالفائدة من البنوك الخاصة. وتعترف فكتوريا بأنها لم تتوصل إلى هذه الحقائق لوحدها بل ساعدها أبوها في بحثها عن المعلومات المتوافرة في الإنترنت. لماذا تنازلت الحكومات للمصارف الخاصة عن حقها في إصدار النقود؟ الجواب الجاهز لدى منظري "الوول ستريت" هو: "الحكومات لا تؤتمن، لأنها قد تصدر النقود بدوافع سياسية". ولماذا تؤتمن البنوك الخاصة؟ الجواب: "عمل الخير"، وهذه نكتة لا يضحك لها المنظرون عن مدير بنك فتح فرعاً قرب المقبرة يحمل لافتة تقول: "لا يمكنك أن تأخذ أموالك معك، لكننا نضمن لك فرصة البقاء قريباً منها". وفي النمسا من ينسى أسمهان: "ساعة هَنا. لو تفضالك. تنسى معاها الكون كله، إيه اللي رايح يبقالك من النعيم ده غير ظله"؟