ليس مهمّاً إن كانت حكومة جنوب السودان قد سحبت قواتها العسكرية التي احتلت "هجليج" وذلك "استجابة للضغوط الدبلوماسية" كما أعلن متحدث رسمي باسمها، أو أن قوات حكومة السودان "قد طردت قوات الجنوب المحتلة ولقنتها درساً قاسيّاً وكبدتها خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد العسكري"، كما أعلن وزير دفاع السودان في بيان رسمي أذاعه للشعب السوداني. ذلك ليس مهماً، فالخاسر الأكبر في هذه المأساة الدامية هو الشعب السوداني في الجنوب والشمال، لأن الدماء التي سالت والأرواح التي فقدت هي بعض دمه الذي ظل ينزف لأكثر من نصف قرن في حروب خاسرة لا يحكمها عقل ولا يقبلها ضمير حي.. حروب وحشية يسوق بعض الحكام والساسة السودانيين شعبهم المظلوم إليها، تحت دعاوى وأهداف غامضة، وكان الشعب الطيب يدفع دائماً ثمنها من استقراره وأمنه وفرصه في التنمية وفي اللحاق بعالم القرن الحادي والعشرين. لقد أخطأت حكومة جنوب السودان خطأ كبيراً، أولاً في حق شعبها عندما استجابت لضغوط دعاة الفتنة والانتقام، وقررت احتلال "هجليج"، وأخطأت ثانية في حق شعب السودان وخانها الحساب والتصور السياسي. إن شعب السودان -على رغم مرارة الانفصال- لا يريد معاداة شعب جنوب السودان، وقد تقبلت غالبيته العظمى واحترمت حق الجنوبيين في الاستقلال ببلدهم وتمنوا من الله أن يوفقهم إلى النجاح. وتعلم القيادة الجنوبية أن خطأها الكبير باحتلال "هجليج" أفقدها عطف حتى أصدقائها من سودانيي الشمال.. بل إنها تعلم أن عملية "هجليج" قد أفقدتها عطف وتأييد المجتمع الدولي الذي يعتبرها إحدى منجزاته النادرة، ولا أدل على ذلك من موقف الأمين العام للأمم المتحدة وإعلانه صراحة أن احتلال "هجليج" من جانب حكومة الجنوب عمل غير قانوني.. واستجابة سلفاكير لمحادثته واللهجة التي تحدث بها مع الأمين العام بشكل لا يليق برئيس دولة محترمة. إن كل الناس يعلمون أن هناك قضايا ومشاكل ومخلفات صعبة الحل، نتيجة انفصال الجنوب، وهذه القضايا والمشاكل لن تحل بإعلان الحرب والتهديد بالغزو والعودة إلى المربع الأول. وهنالك واقع على الأرض يدعو أهل البلدين المتحاربين إلى "الجهاد الحق" لتأسيس علاقاتهما على حسن الجوار وتحقيق المصالح المشتركة واحترام القانون الدولي والمواثيق الدولية والإقليمية، التي تعترف بها كلتا الدولتين.. والعمل بجد وصدق لرفض الحرب وتوطيد السلام لمصلحة شعبي البلدين ومستقبلهما. وإذا فشلت حكومتا البلدين في تفهم وإدراك أن الواقع المر يفرض عليهما التعايش في سلام وتطوير علاقات بلديهما ومصالحهما المشتركة، فهما شريكان مسؤولان عن الإجرام في حق شعبيهما. والسودان ليس ملكاً لحكومة الإنقاذ وحزبها، والجنوب ليس ملكاً لحكومة الحركة الشعبية، والتاريخ لن يتجمد ويتوقف عن مساره الطبيعي عند "هجليج" أو خطوط أنبوب البترول. والتصعيد لأجواء الحرب سيقود البلد وأهله إلى طريق خطر وسيعم الخطر والهلاك الجميع. وفي رأيي أن الوقت قد حان ليُسمع الشعب السوداني في الشمال والجنوب هؤلاء الحكام في كلا البلدين صوته... لقد حان أن يتداعى أهل السودان شمالاً وجنوباً للدفاع عن السلام وإيقاف الانحدار إلى هاوية الحرب. والدعوة إلى مؤتمر جامع لكل القوى السياسية والدينية في الجنوب والسودان يعمل لإصدار عهد وميثاق بين الشعبين لبناء علاقات مستقبلهما على ما توافق عليه المجتمع الإنساني من حيث حسن الجوار وتبادل المنافع والمصالح المشتركة والحفاظ على الروابط والعلاقات الاجتماعية والإنسانية بينهما التي ستبقى ما بقي الدهر وستذهب الحكومات مهما طال بقاؤها.