كان من سوء الطالع، في بعض دول الخليج العربية، أن ينقلب السحر على الساحر فيما يتعلق بتقديم الدعم الحكومي والاحتضان "البطريركي" لجماعة "الإخوان المسلمين" الهاربين من أنظمة عربية مارست ضدهم الإقصاء والتعقب. وما إن تمكنوا من هذه البلدان حتى أصبحوا ظاهرة أقضّت مضجعَ بعض الحكومات، ما أدى إلى وصف أحد المسؤولين الخليجيين لهم بأنهم "أساسُ البلاء في البلاد"! وذلك على إثر تحركات وتعبئة مارسوها. وكانت أجواء الخمسينيات قد مهّدت لإيواء "الإخوان" من الخارج اعتقاداً من الحكومات المحلية بأنهم سيكونون "حصناً" للدول من أخطار التوجهات الشيوعية والماركسية والقومية الذين وضعوا سيوفهم جانباً وانفرط عقدهم. كما عوّلت بعض الحكومات على "الإخوان" لمواجهة المد "السلفي" في مناطق من الخليج. واليوم وبعد وصول "الإخوان" المتوقع -على الأغلب- إلى سدة الحكم في مصر، فإن الأصوات قد ارتفعت خارجها نحو تدخل "الإخوان" في أنظمة الحكم، بل واتخاذ "المنبر" واجهة سياسية تنطلق بأحكام وقرارات هي من صلب اختصاصات وزارات الخارجية. وهذه "النشوة" بالانتصار، بعد سنوات من الانتظار والقمع، تذكرنا بانهيار نظام صدام حسين السني، ومجيء الإخوة الشيعة إلى السطح للانتقام من رموز العهد البائد الذي ينسحب أيضاً، في نظرهم، على كل السنة. وهذا ما أدمى العراق منذ 2003 وحتى اليوم. وهذه قراءة بسيطة وسهلة للشخصية العربية التي ما زالت تحتفظ بتراث "أنا وابن عمي على الغريب"! إننا نعتقد أن تطور الأحداث في المنطقة العربية وبروز "النرجسية الخطابية" و"التمحور حول الذات التلفزيونية" Media Egoism لدى البعض، قد حاد بهم عن الدور الأهم للداعية الديني إلى الولوج إلى نفق السياسة، والدخول في حقول ألغامها، وهذا ينبئ عن اتجاه خطير وخروج عن مألوف الجماعة. فالدين له أهله ودعاته ومساجده، والسياسة لها هي أيضاً أهلها ودعاتها ووزاراتها. ولا يجوز الخلط بين الأمرين، بل ولا يجوز التشدد في قضية الدين لإظهار طرف ما وكأنه أكثر التزاماً وقرباً من الله (عز وجل) كما حدث أثناء انعقاد البرلمان المصري وقيام أحد النواب برفع الأذان! وإذا كانت دول الخليج قد وضعت بعض الموانع أو الإجراءات ضد التطرف الديني، على رغم أن بعضها قد أوكل لـ"الإخوان المسلمين" مهمة وضع مناهج التعليم وأسس الإدارة، وغيرها من المهام الأساسية في التنمية البشرية، إلا أن الحالة اليوم، إثر انتشار التيارات المختلفة في أكثر من بلد عربي بعد الثورات الأخيرة، تستدعي وعياً أكبر. ذلك أن مسببات "التحصّن" بـ"الإخوان" قد زالت. فلا توجد منظمات يسارية ولا حتى تيارات قومية، بعد فشل شعارات كليهما، بل إن صوت "الإخوان" قد ارتفع نحو "التصعيد" بعد وصولهم إلى السلطة في مصر. وظهر ذلك جليّاً في تهديد أحد منتسبي "الإخوان" في مصر لدولة خليجية في أمنها واستقرارها، وهو دليل على مدى عنف وشدة الخطاب، والله وحده يعلم ماذا وراء ذلك! وحدث أن استنكر مجلس التعاون الخليجي موقف أحد المتحدثين باسم "الإخوان" حول مسألة ترحيل مجموعة من السوريين من دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو أمر سيادي للدولة ولا يجوز لأي بلد أو أية جماعة التدخل فيه، كما حدث أيضاً من شخصيات في فضائية عربية! وبسبب ذلك طلب وزير خارجية الإمارات أن توضح الحكومة المصرية موقفها من التصريح "الإخواني" غير المقبول. يحدث هذا في أوائل أيام حكم "الإخوان" في مصر! وبدلاً من أن تتوجه الجماعة إلى معالجة القضايا المحلية المُلحة في بلادها، وإزالة آثار النظام الفاسد بعقلانية وتمعن، فإن الأذرع تمتد إلى الخارج في تجاوز واضح للأعراف الدبلوماسية والتقاليد القانونية ذات الارتباط. إن مكمن الخوف اليوم هو تجاوز الجماعات -على تعددها- للقوانين والدساتير المحلية التي تنظم سيرَ الحياة في دول المنطقة، بحيث يصبح الولاء والممارسة لمرجعيات خارجية، على غرار المرجعيات الشيعية في إيران! وهذا أمر يشق الوحدة الوطنية في أي بلد، ويجعل البعض يعهد بالبيعة لجهات خارجية! مما يؤدلج الحياة في منطقة لم تعرف أي نوع من الأيديولوجية سوى حب الوطن والتحالف المتراضي مع السلطة. نحن في الخليج لا نحتاج إلى الأدلجة ولا إلى التحزب بالدين، فكلنا مسلمون ونعرف حدود الله، كما نعرف أن الحياة يجب أن تسير وفق نواميس تحفظ كرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية، استناداً للمواثيق الدولية التي تدعم الأمن للناس وحقوقهم بأن تكون لديهم أوطان وجنسيات وأعمال وحريات. وهذه المواثيق لا تتعارض مع القرآن الكريم ولا مع السنة المطهرة. أنا لا أتنبأ بالمستقبل، ولكن قراءة أوراق اليوم تعطينا بعض الإشارات على أن ما سيأتي سيحمل المزيد من السلبيات في الواقع الفكري والأمني في دول الخليج العربية. إذ على مدى ستين عاماً من وجود "الإخوان" في المنطقة، لا شك أنهم "ولّدوا" أكثر من جيل من المواطنين الذين يتبعون نهجهم. وإذا كانت مصر ستكون هي المرجعية، بحكم نشأة وتكوين وعدد أفراد الجماعة، فإن المواطنين (من أفراد الجماعة) سيتجهون بولاءاتهم إلى الخارج، وهذا لن يكون في صالح الدول، وسيخلق إرباكاً أمنيّاً وثقافيّاً في أي بلد. إننا نعتقد أن تشريعات واضحة يجب أن تصدر كي لا تتحول منطقة الخليج إلى "تورا بورا" أو "مزار شريف"، وأن تحدد أنشطة وسلوكيات الجماعات المختلفة وفق أسس لا تمس أمن الدولة ولا أمن المواطنين وأفكارهم. وأن حرية المُعتقد مكفولة، ما لم تتجاوز حدودها إلى التأثير والتكفير وإجهاض مراحل التنمية التي خطتها دول المنطقة. لقد أسقط في يد بعض الحكومات الخليجية عندما سقط التحالف بينها وبين بعض العشائر التي عوّلت عليها الأنظمة لأكثر من سبعين عاماً! واليوم يتجدد الوضع بين المطالبات الإصلاحية والديمقراطية وبين ارتفاع نبرة "الإخوان المسلمين" وتدخلهم في الشؤون الداخلية لبعض البلدان. فإلى أين تسير دول الخليج التي ترتبط ارتباطات وثيقة مع الأميركان (الأصدقاء)، في الوقت الذي تؤوي فيه مئات الآلاف من الجماعات الدينية، ناهيك عن احتمال وجرد بعض المتطرفين. إن الموقف يحتاج إلى دراسة سريعة ودقيقة، لأن انفجار المنطقة يمكن أن يحدث من خلال "البلبلات" الإلكترونية والفضائية التي تعصف حاليّاً في بلدان الثورات العربية.