قمت خلال الأيام الماضية بزيارة رسمية هي الأولى لي لليابان، بلاد الساموراي وأسطورة آسيا ورمز التحدي والإصرار على النجاح في وجه الصعاب والخروج كطائر الفينيق من الركام لقهر تحديات الطبيعة والجغرافيا وآثار القنبلتين النوويتين. وفوق ذلك مواجهة تحدي ندرة الموارد الطبيعية ومواجهة الزلازل والأعاصير والتسونامي، وغيرها من كوارث كان آخرها زلزال مارس عام 2011 الذي أحدث دماراً هائلًا وخسائر هي الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، وفقدان 20 ألف ياباني، وولد تعاطفاً عالميّاً مع اليابان، حيث قدمت دولة الكويت هبة 5 ملايين برميل نفط بقيمة نصف مليار دولار دعماً لإعادة الإعمار. وفوق ذلك كله تعيش اليابان وسط جيران صعاب بوجود كوريا الشمالية والصين وروسيا. وهذا يذكرنا كدول خليجية صغيرة بمـأزقنا الجيو سياسي وسط جيران كبار وصعاب. ولطالما أثرت الجغرافيا والموقع والجيران على واقع وسياسة الدول الخارجية. ولا شك أن قارة آسيا ستكون لاعباً مؤثراً ومحركاً للكثير من الأوراق خلال العقود القادمة، وخاصة أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً آسيويّاً. تقدمت الصين العام الماضي على اليابان لتحتل مرتبة الاقتصاد الثاني عالميّاً وتراجعت اليابان إلى المرتبة الثالثة. واليابان عبارة عن أرخبيل من الجزر أبرزها 4 جزر كبيرة في أقصى قارة آسيا في المحيط الهادئ. وقد بقيت اليابان مجتمعاً منعزلاً بثقافة مستقلة تميزه عن كثير من الشعوب. وقد يكون سبب تميز واختلاف اليابانيين هو الديانة الشنتوية التي يدين بها معظم الشعب. ولكن منذ مطلع القرن العشرين تحولت اليابان إلى قوة إمبريالية عظمى واحتلت أغلب دول تلك المنطقة ووصلت بها الثقة بالنفس حد مهاجمة أميركا في بيرل هاربر، الأمر الذي قاد إلى حرب عالمية خسرتها اليابان. وقد تلت ذلك نهضة غير مسبوقة حولت اليابان إلى أهم دولة في شرق آسيا، ولاعب كبير على المستوى العالمي في مجال القوة الاقتصادية وتقنية المعلومات والاختراعات والإلكترونيات. لقد توجهتُ شرقاً إلى اليابان، بلاد الشمس، التي لطالما سمعت عنها وعن إبداعها وإنجازاتها وتميزها ودقتها وتمسك شعبها بأنظمة صارمة من الاحترام والتفاني في العمل والتعامل والتميز والإنجاز. واليابانيون يتكلمون باحترام مع ضيوفهم وينحنون تواضعاً عند التعارف والسلام ولا يقبلون "البقشيش"! وذهلت لرؤية عشرات اليابانيين يسيرون في الشوارع وهم يضعون كمامات بيضاء تغطي أنفوهم وأفواههم، وعندما سألت، أخبرت بأنهم إما أن لديهم إنفلونزا، ولا يريدون أن يعدوا زملاءهم في العمل! أو لديهم حساسية. وتساءلت: كم من موظفينا يذهب إلى عمله وهو مريض؟! بتكليف كريم من وزارتي الخارجية والإعلام بدولة الكويت كانت رحلتي، وعلى هامش زيارة الدولة التي أداها في الأسبوع الماضي حضرة صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح إلى اليابان، التي التقى خلالها مع الإمبراطور الياباني ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان ومسؤولين كبار ووقع على اتفاقيات ثنائية تعزز وتدفع بالعلاقة، التي تمتد لأكثر من نصف قرن، بين البلدين، إلى مستوى الشراكة. وقد شاركت ضمن "الأسبوع الثقافي الكويتي في اليابان" الذي أقامته وزارة الإعلام في دولة الكويت في العاصمة اليابانية -طوكيو- على مدى أسبوع، تزامناً مع زيارة صاحب السمو الأمير. وقد تضمن هذا الأسبوع معرضاً للتراث والثقافة الكويتية شمل الفن التشكيلي وصناعة "البوم" -السفينة الكويتية- وخطاطين وفرقة تلفزيون دولة الكويت. وأجريت مقابلات مع الصحفيين اليابانيين وألقيت عدة محاضرات، أبرزها في البرلمان الياباني، وفي جمعية المراسلين الأجانب في اليابان، وفي النادي الوطني للصحافة اليابانية. وتعد هذه المراكز الإعلامية ذات سمعة عالمية حيث تلقى فيها محاضرات وتعقد جلسات حوار بين الكتاب والصحفيين ورؤساء دول وحكومات كالرئيس الروسي، والصيني، والفرنسي، والإندونيسي، والفلبيني. وعلى قائمة من استضافهم نجد تاتشر وبان كي مون ورئيس وزراء أستراليا وشيراك ومانديلا وحتى حسني مبارك! وقد تساءلت بيني وبين نفسي: متى ترتقي جمعيات ونوادي الصحافة والمراسلين في دولنا العربية وتستقطب شخصيات على مستوى رؤساء الدول والحكومات؟ واضح أن اليابان متأثرة بتداعيات الأزمة المالية العالمية بزيادة عدد العاطلين عن العمل، وأيضاً بسبب الزلزال المدمر العام الماضي الذي تسبب في خسائر تقدر بأكثر من 250 مليار دولار. ويشكل ارتفاع سعر صرف "الين" بالمقارنة مع الدولار والعملات الأخرى عاملاً يفاقم من الوضع الاقتصادي بسبب تراجع الصادرات اليابانية نتيجة غلائها. وتشكل المنافسة الكورية الجنوبية في مجال المنتجات الإلكترونية، وكذلك المنتجات الصينية، تحديّاً جديّاً للمنتجات اليابانية. ولكن على رغم الأزمة المالية العالمية ومع الوضع الاقتصادي الصعب إلا أن القوة الناعمة اليابانية، لا تزال مؤثرة على المستوى الدولي. فالاقتصاد الياباني يبلغ حوالي 6 تريليونات دولار لشعب عدد سكانه لا يتجاوز 128 مليوناً. ما يعني أن الاقتصاد الياباني أكبر من الاقتصادين الألماني والبريطاني مجتمعين! وهذا في حد ذاته إنجاز يحسب لليابانيين الذين أذهلوا العالم بتقنياتهم ودقتهم وقدراتهم التكنولوجية والإبداعية. فمن منا لم يستخدم سياراتهم مثل تويوتا ونيسان وهوندا؟ ومن منا لم يملك جهاز تلفزيون أو ستريو سوني الذي قدم للبشرية راديو الترانزستور والواكمان و"السي دي" وجهاز تسجيل الفيديو المنزلي؟ واليابانيون قلقون الآن من الأوضاع في الخليج، ومن المواجهة بين إيران والمجتمع الدولي، وكذلك من أي حديث عن احتمال إغلاق مضيق هرمز. وكثير من أسئلة النواب والصحفيين تركزت حول تلك القضايا، وخاصة أن اليابان تعتمد اعتماداً رئيسيّاً، يصل إلى 90 في المئة من احتياجاتها النفطية، على دول مجلس التعاون والعراق وإيران. ومع اهتمام دول مجلس التعاون الخليجي، بشكل جماعي أو فردي، بآسيا، والتوجه شرقاً، فلعل المطلوب الآن هو تكثيف وتوثيق العلاقة بشكل أكبر بين دول مجلس التعاون ودول شرق وجنوب آسيا. وقد طالبت المسؤولين اليابانيين بلعب دور أكبر في حماية مصالحهم والمساهمة في تدعيم الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي. وأطالب المسؤولين الخليجيين أيضاً بالتوجه شرقاً وربط مصالحنا المشتركة مع الآسيويين بشكل أكبر في المستقبل. وعلى العموم لم أُصدم مما شاهدته في اليابان. بل تأكدت أكثر من تميز الشعب الياباني، واكتشفت عن قرب سبب نجاح النموذج الياباني وتقدمه. وقد غادرت اليابان متسائلًا: ما هي معادلة النجاح اليابانية؟ وكيف يمكننا التعلم منها؟ وما هي الدروس والعبر؟ وكيف يمكن لدولة دمرت كليّاً وخسرت حرباً طاحنة واحتلت وجُرح كبرياؤها، أن تخرج من الركام بهذه القوة وتتقدم وتبهر الأمم والشعوب؟ السبب الأول وسر النجاح هو الالتزام بالنظام واحترام وتقدير الوقت والعمل وإنجاز ما يُكلف به المسؤول والموظف والطالب. وعلمت لماذا يستقيل وزير إذا وقع تصادم بين قطارين! ولماذا ينتحر وزير آخر إذا تم اكتشاف تجاوزات أو فساد في وزارته. احترام النظام وتطبيقه على الجميع، وتحمل المسؤولية، والإخلاص والتفاني في العمل وحب الوطن قولًا وفعلاً وعطاءً، تكمل قصة نجاح اليابان، وفي ذلك دروس وعِبر لنا جميعاً ينبغي تعلمها!