من ضمن طقوسي الثابتة يوم الجمعة، متابعة برنامج" شيلدز آند بروكس" الذي تقدمه شبكة "بي. بي. إس" في ساعتها الإخبارية. والمذيعان المسمى البرنامج باسميهما يقدمان عادة تحليلات ذكية، مع أنهما يختلفان مع بعضهما من وقت لآخر حول ما يتناولانه من موضوعات، إلا أنهما يفعلان ذلك بقدر كبير من الذوق والاحترام المتبادل. ونحن بحاجة للمزيد من هذا النوع من الخطاب في الولايات المتحدة، بدلاً من الدوجمائية، والصخب الهيستيري الذي يسم الخطاب الحالي. ولقد سررت أيما سرور عندما اعترفت كلية "الليجيني" في بنسلفانيا بأداء"مارك شيلدز" و"ديفيد بروكس"، ومنحتهما بـجائزة "الذوق الرفيع في الحياة العامة". والحق أنني تأثرت كثيراً بكلمات"جيمس مولين" رئيس الكلية الذي قال إنه يأمل أن تنجح الجائزة، وكذلك التركيز الذي تقوم به الكلية على اللياقة والذوق، في"تمكين الشباب في مختلف أنحاء البلاد، ومساعدتهم، ومساعدتنا جميعاً على العثور على ذلك القدر من الإيمان والشجاعة الذي يمكنهم- ويمكننا- من الاشتباك في أمور الحياة العامة بأقصى قدر من اللياقة والذوق والاحترام". وقال "شيلدز" على الهواء إنه ممتن لمحاولته "تخفيض منسوب السُمّية في النقاش العام والحياة العامة الأميركية". وبلفتة أخرى من الذوق والتواضع الجم، ذكّر"شيلدز" المشاهدين بأنه و"بروكس" قد استفادا كثيراً من المعايير التي وضعها كل من"روبرت ماكنيل" و"جيم ليهرر" اللذين ينسب إليهما الفضل في تصميم الساعة الإخبارية لشبكة"بي.بي.إس". كان كل من هذين المذيعين اللامعين محققين صحفيين لا يشق لهما غبار سواء أمام الكاميرا أو خلفها، ولكن وكما أعلن"شيلدز" كانا يطرحان الأسئلة، وينتزعان الإجابات عنها بطريقة تعتمد، بل وتصر على معيار اللياقة وأدب الحوار، بات اليوم يتخلل كافة البرامج الحوارية التي تقدمها هذه الشبكة، وتحول مع مرور الوقت لشيء مشابه لمعيار الذهب المعروف في الحقل المالي والاقتصادي. كنت أتمنى أن يكون ذلك المعيار الذهبي ظاهراً في السجالات الحادة والإعلانات التلفازية الهجومية التي كانت هي السمة الغالبة على الحملة الانتخابية الرئاسية حتى الآن. فقد أطلق المترشحون الجمهوريون على أنفسهم عبارات من مثل"مزيف" و"نرجسي" و"متذبذب بلا مبادئ" كما وصفوا أوباما بأنه" متعال" و" قاتل للوظائف". كانت هذه وما زالت هي الحالة الذهنية السائدة في الحملات الانتخابية الحالية، وما يلفت النظر في هذا السياق أن أوباما نفسه قد نسى على ما يبدو أنه رئيس للجميع، فراح يوجه اتهامه لـ"الجمهوريين" بأنهم مسؤولون تقريباً عن كل المتاعب والمشكلات التي واجهها منذ أن تولى الرئاسة. إن الديمقراطية الأميركية تمثل منارة للملايين في مختلف أنحاء العالم، ولكن شخصية النظام السياسي، الذي يوصلنا إلى ذلك - أي إلى أن نكون منارة- تترك العديد من المراقبين فاغري الأفواه. فالحملة الانتخابية الرئاسية تستغرق فترة أطول من اللازم، وتنهمر عليها كميات من الأموال أكبر مما ينبغي. أما المناظرات "الجمهورية" فقد تعددت حتى فاقت الحد، ولم يكن هدفها توضيح السياسيات بقدر ما كان ملء الشاشات بالصور والتصريحات، كما اتسمت أيضاً بالمظهرية والغرور الزائف، وظاهرة "قتل الأخ". دعونا نأمل أننا سنرى قدراً أكبر من ذلك الذوق المتبادل والاحترام، عندما ينخرط الرئيس الحالي والرئيس المحتمل في مناظرة بعد هذه الانتخابات التمهيدية للحزب "الجمهوري"، والتي تبدو ممتدة بلا نهاية. على الرغم من"معيار الذهب" للساعة الإخبارية لشبكة "بي.بي.إس" والتغطية الممتازة لبعض المؤسسات الإخبارية، فإن مهنتي الصحفية تحتم على أن ألفت النظر إلى ما أراه من عيوب. فالقنوات التلفزيونية المشفرة- ومنها"بي.بي إس"بالطبع- التي تتمتع بشهية هائلة للإثارة والصراع لم تقصر في عرض، وإعادة عرض- عدد لا نهائي من المرات- الأخطاء والهفوات التي ارتكبها، والإهانات والتلاسنات التي تبادلها المرشحون "الجمهوريون" أمام منصات المناظرة. ومما يؤسف له أن بعض الصحفيين قد سعى عمداً في أحيان كثيرة، ومن خلال توجيه أسئلة ملغومة للمترشحين لإخراجهم عن طورهم، وجعلهم يدلون بتصريحات نارية مسيئة للمترشحين الآخرين، وهو ما لم يفد حملاتهم بشيء. لأن السجال المحتدم قد ينجح في احتلال صدارة الصفحات وملء الشاشات، ولكنه لا يوضح البرامج الانتخابية، وللسياسات. يستهجن "مايكل والاس " الصحفي والإعلامي اللامع بشبكة" سي.بي.إس" في كتابه الموسوم" الحرارة والضوء" التركيز المبالغ فيه على برامج الثرثرة والفضائح على مدار الساعة. فمع مقدم تلفزيون الكيبل والقنوات التلفزيونية المشفرة تحولت الأخبار إلى نوع من "المكلمة" أوالثرثرة الفارغة التي لا تنتهي. لقد كانت البرامج الحوارية والإخبارية في الماضي تمثل "سباقاً نحو القمة" أما الآن فهي تمثل"سباقاً نحو القاع". ما أود قوله في نهاية هذا المقال إنه سواء تعلق الأمر بالرؤساء، أو الملوك، أو أرباب التجارة والصناعة، أو الساسة، أو الصحفيين، أو الخبراء والمستشارين، أو الممثلين الكوميديين الذين يظهرون في المساء المتأخر ، أو حتى الناس العاديين المجتمعين حول مائدة عشاء، فإن الحوار والمناقشات والأحاديث التي تدور بينهم سوف تكون أفضل كثيراً، لو اقترنت باللياقة والاحترام المتبادل. جون هيوز مساعد وزير الخارجية في عهد ريجان ينشر بترتيب خاص مع خدمة" كريستيان ساينس مونيتور