كونفدرالية خليجية فعالة
اكتسبت مبادرة خادم الحرمين الشريفين في القمة الخليجية الأخيرة في الرياض "بالانتقال من مرحلة التعاون الحالية إلى مرحلة الاتحاد في كيان موحد" زخماً ودفعاً كبيرين في نهاية العام الماضي، وسط صخب الحراك الثوري في أكثر من دولة. وقد استقطب الأمر مجدداً اهتمام ندوات ومحاضرات وبرامج حوارية على الفضائيات الخليجية والعربية تحلل وتشرح ذلك. وكان لهذا الموضوع أيضاً اهتمام محدود ووحيد في الشأن الخارجي في حملة انتخابات مرشحي مجلس الأمة الكويتي الأخيرة.
كما أعاد إلى الأذهان موضوع الكونفدرالية الخليجية تصريح رئيس السن في مجلس الأمة الكويتي خالد السلطان المنتمي للتيار السلفي، الذي انتخب لاحقاً كنائب رئيس مجلس الأمة -في الجلسة الافتتاحية للمجلس يوم الأربعاء الماضي- حيث صرح النائب السلطان بحضور أمير دولة الكويت، وولي العهد، ومجلس الوزراء، والسلك الدبلوماسي المعتمد في الكويت، وعشرات الآلاف من الكويتيين والخليجيين المتابعين لجلسة افتتاح مجلس الأمة: "إن أمن الكويت الداخلي والخارجي، وحفظه من المخاطر الخارجية، يحتم علينا الشروع في الاتحاد الكونفدرالي مع دول مجلس التعاون الخليجي، وفق نظام يحافظ على خاصية كل دولة ونظامها السياسي وبنيتها القانونية". كما شارك كاتب هذه السطور أيضاً قبل أيام في برنامج حواري تلفزيوني لفضائية "المستقبل" الإخبارية عن الكونفدرالية الخليجية، وتوضيحها في السياقات التي تناولها نائب رئيس مجلس الأمة النائب خالد السلطان.
وهنا أود أن أذكر بأنه سبق لي أن تناولت هذا الموضوع في صفحات "وجهات نظر" في مقالة حملت عنوان "الحقبة الخليجية" في نهاية العام الماضي، بعد مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في القمة الخليجية. والشاهد أن مؤسسة مجلس التعاون الخليجي وبعد أكثر من ثلاثة عقود على قيامها لأسباب ودواعٍ أمنية ودفاعية كمنظومة أمن جماعي Collective Security كونفدرالي، ولكن بلا أنياب، لم تنجح في تحقيق التقدم والنقلة المطلوبة والتطور إزاء المتغيرات المتسارعة التي تهدد جميع دولنا وسط إرهاصات صراع قوى وسقوط أنظمة وصعود وطمـوح وسعي أخرى للهيمنة والتمدد.
إن دول مجلس التعاون الخليجي التي يتحدث ميثاقها عن التعاون والتكامل وصولًا للوحدة، لم تحقق خلال أكثر من ثلاثين عاماً أي تقدم نوعي في مجال الأمن الجماعي، حتى بعد أن تحولت دول المجلس إلى قوة اقتصادية ومالية وبقوة ناعمة مميزة وضاغطة تزداد أهمية وحضوراً على الساحتين العربية والإقليمية. وكيفية استثمار هذه القوة المتميزة "بحجم وقوة وثقل المجلس كمؤسسة وكيان اقتصادي ومالي وطرف ذي ثقل في أمن الطاقة والاستثمارات وحجم الأسواق الاستهلاكية والإنفاق الفردي والأمني والعسكري بالنسبة لحجم سكانه". لأننا، كما أكد خادم الحرمين في القمة الخليجية الأخيرة في الرياض:"نجتمع اليوم في ظل تحديات تستدعي منا اليقظة ووحدة الصف، ولاشك أنكم جميعاً تعلمون أننا مستهدفون بأمننا واستقرارنا، ولذلك علينا أن نكون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقنا اتجاه ديننا وأوطاننا". وهذا أيضاً ما أكده سمو أمير دولة الكويت في جلسة افتتاح دور انعقاد مجلس الأمة في الأسبوع الماضي حين قال: "يواجه اليوم وطننا العزيز جملة من التحديات الداخلية والأخطار الخارجية تعرقل مسيرته على طريق البناء والتقدم وتعميق جهوده لتحقيق التنمية حاضراً وتهدد أجياله القادمة مستقبلاً".
واليوم باتت الحاجة أكثر إلحاحاً بسبب ما تموج به المنطقة من متغيرات وتداعيات ما يجري في البيئة الخليجية المحوطة بانتفاضات عربية مرت الذكرى السنوية الأولى لثلاث منها، ضمن الحراك الثوري الذي يسميه كثيرون "الثورات العربية" في تونس ومصر وليبيا وغيرها. وهناك أيضاً تحديات الحالة العراقية بعد الانسحاب الأميركي من بلاد الرافدين. وكذلك تقديم استراتيجية أمنية أميركية جديدة للأمن الخليجي، والطلب من دول المجلس المشاركة أكثر في مجال الأمن الخليجي والتسلح وتحمل أعباء أمنية أكبر من السابق بسبب الأزمة المالية الأميركية، وفرض لجنة مشتركة من مجلسي الكونجرس خفض ميزانية الدفاع بنصف تريليون دولار خلال عشر سنوات.
وهناك أيضاً خط صدع آخر يثير قلق دول المجلس قاطبة هو المتمثل في الاحتقان الطائفي بين السنة والشيعة، الذي نرى تجلياته في البحرين والكويت، مع ما قد يمثله ذلك الصدع من تهديد للنسيج الاجتماعي من الداخل.
ويتزامن ذلك كله مع احتدام الصراع وغياب الثقة بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث تشهد العلاقة بين ضفتي الخليج حالة من الحرب الباردة. وقد رفع من حجم غياب الثقة والحرب الباردة تدخل إيران في شؤون دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة في البحرين، واكتشاف شبكات تجسس في الكويت. وزاد حالة التشنج في العلاقة بين الطرفين موقف كل منهما من سوريا حليف إيران الاستراتيجي، وانحياز طهران الواضح للنظام السوري، بينما تنحاز، بل تقود دول مجلس التعاون الخليجي، الموقف العربي لمصلحة الشعب السوري. وهناك أيضاً التصعيد والمواجهة بين إيران والمجتمع الدولي حول برنامجها النووي والشد والجذب والحديث عن احتمال سيناريوهات عملية عسكرية.
ووسط هذا كله وبالنظر لوجود غياب واضح لمركز الثقل العربي التقليدي واختفاء مثلث الثقل السابق، يتشكل نظام إقليمي عربي جديد أصبحت فيه دول مجلس التعاون الخليجي كأمر واقع هي نقطة الارتكاز وبؤرة ورافعة النظام العربي كله في مواجهة العواصف والتحديات التي تعصف بالمنطقة في جوارنا القريب والبعيد، من أزمة مالية عالمية، وانتفاضات، إلى تحديات إعادة تموضع أميركا، وعراق يتشكل وقد ينزلق نحو عدم الاستقرار على خلفية خلافات سياسية ومناطقية وطائفية ومذهبية بعد الانسحاب الأميركي. وكانت هناك أيضاً مخاوف على البحرين من استهداف هبّت دول الخليج للتأكيد في وجهه أن أمن دول المجلس خط أحمر لا مساومة فيه. وهناك أيضاً إيران بمشروعها، ويمن يواجه الفشل وعدم الاستقرار، وعملية سلام مجمدة، وسوريا نازفة، ومصر على مفترق طرق.
وفي المجمل في هذا المشهد الإقليمي تبرز دول المجلس كمرجعية تقود الصف العربي وترتقي للتحديات. ويعزز الدور القيادي لدول المجلس، كما أسلفنا، البعد الاستراتيجي والأمني ودورها في أمن الطاقة والأسواق التجارية والاستهلاكية والاستثمارات وأسواق السلاح والإنفاق العسكري. ولذلك كانت المبادرات والمطالبات من أكثر من طرف بالانتقال بعد ثلاثين عاماً من التعاون الكونفدرالي الفضفاض إلى كونفدرالية أكثر فعالية تحول مجلس التعاون الخليجي إلى قوة هي الأهم في المنطقة الممتدة من إسبانيا إلى الهند، وذلك بتوحيد السياسات الدفاعية والأمنية والخارجية والنفطية والتجارية. وثمة تحديات كبيرة قد تقف عائقاً.. ولكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة جريئة.