لعل الأحلام في مرحلة الشباب، تكون ذات بعد مثالي في حياة الأفراد والأمم، ولعلها تكون مرحلة مثالية في حياة الإنسان، كأن يحلم في تحقيق الحلم الإسلامي أو الأممي، أو القومي أو العرقي أو الطائفي، تلك كلها أحلام مرحلة من مراحل حياة الإنسان.
أيام المراهقة يكون الإنسان مثالياً، بحيث يعتقد مثلاً أن النموذج الأمثل هو الحلم الإسلامي، ذلك الذي يتصور المدينة الفاضلة في ظل مثاليات مرحلة لم تستمر أكثر من أربعين عاماً من عمر أمة استمرت أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان. ذلك الحلم المثالي بحياة من الرفاه والمساواة بين الذكر والأنثى، بل أن يأخذ الرجل نصف الدين من المرأة، ومن تلك الحميراء سيدتنا عائشة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي كانت أكثر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم أثراً في الحياة السياسية والاجتماعية التي أعقبت وفاته...... وذلك لظروف سياسية تخطت مرحلة قوة ذلك الإنسان الذي دافع عن المرأة وكرامتها. وجاءت بعد ذلك مرحلة الصراع على السلطة السياسية، فكم من جريمة ارتكبت باسم السلطة الدينية، وكم من جريمة ارتكبت باسم اللاهوت الديني. فما هو تفسير مقتل عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان أو علي بن أبى طالب؟ تعددت الأسباب إلا أن السبب واحد، وهو الصراع السياسي من أجل السلطة، وهو وبكل بساطة صراع من أجل النصف الدنيوي ضد كل ما هو ديني. ومن عجب العجاب أن الذين قتلوا الخلفاء الثلاثة كانوا يغلفون هذا القتل بنزعة مثالية تجنح إلى الإصلاح وإلى ما هو أفضل. ولكن السؤال: متى كان القتل لأي سبب طريقاً لما هو أفضل؟ وكيف يكون القتل وهو عمل بشع وسيلة للوصول للأفضل، إلا لدى قلة من الناس كانت وما زالت ترى أن الغاية تبرر الوسيلة! والضحية في هذه النظرية هو الإنسان لأنه ما من غاية نبيلة قدر لها أن تتحقق بوسيلة رديئة أو قذرة، هكذا علمتنا تجارب التاريخ.
كان الصراع بين الإنساني والبراجماتي هو محل الصراع بين عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وبين المثاليين. بين مبدأ البراجماتية التجارية والمثالية الإنسانية، بين ذاك الذي حاول أن يرسخ البراجماتية للتجار من بني أمية وذلك الاتجاه بين حاملي الأيديولوجية الاشتراكية من بقية التوابع، فكان أن انتصرت الأيديولوجية المثالية ضد مصالح السوق. وكان أن انتصرت آلة القمع والتصفية الجسدية ضد كل المثاليين في عصر الدولة الخلافية. كان صراعاً بين المثالية والواقعية السياسية.
ألم يكن ذلك مثالاً في بداية الحركة السياسية بين المثالية والواقع السياسي بين نموذجين من نماذج الحياة الواقعية في حياتنا الحالية؟ بين الحلم والواقع في مرحلة مبكرة من حياتنا السياسية.
كانت تلك المرحلة هي البداية الأولى لمراحل الصراع بين الأيديولوجية والقوى الانتهازية من ضمن المكونة الحياتية لمسيرة حياة أمة. كانت تلك مرحلة الصراع بين الحق والباطل، أو بالأحرى بين قوى الواقع وقوى السيطرة في تلك المرحلة المبكرة من حياة الشعوب. ولعل الأحداث الأخيرة في القرن الجديد تؤكد على أن الصراع هو صراع من أجل السيطرة على الطاقة، وهو النفط في هذه المرحلة، وهو ليس ضد الطغاة من الإرهابيين أو المستبدين ضد شعوبهم، فالطغاة دائماً أداة سهلة لتحقيق أهداف المستغلين، فهم إذ يقمعون شعوبهم ويضيقون الخناق عليها يفتحون الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية. الشعوب المقهورة لا تستطيع أن تقاوم لأنها لا تملك أداة المقاومة وأيديها مغلولة بالقيود وإرادتها مسلوبة، ولكن تلك القوى تصبح خلاقة وقادرة على الفعل مهما كانت قوة المستعمر أو المحتل، هذا ما أكدته تجربة المقاومة في لبنان والمقاومة في فلسطين وقد ملكت إرادتها وحريتها. نتحدث عن الطفولة.... عن أحلامها، عن مثالياتها، ولكن هناك شيئاً ما يشدنا إلى الواقع.
نحاول أن نطير كفراشات بين زهور الربيع، ولكن هناك من يصرخ بنا: إلى أين؟ فمشاهد القتل والخراب تزرع الرعب في وطننا، وأشلاء المواطنين الذين تمزقهم رصاصات الاحتلال تجعلك تعود أدراجك إلى حيث أرض الواقع المر.
نحن لا نستطيع إذن أن نحلم. فلقد سرق منا الحلم من اللحظة التي دخلت جيوش المحتلين والمستوطنين مدننا وقرانا وجعلتنا فريسة لوحش ضارٍ لا يعرف الشبع وهو يمزق أشلاءنا.