إن قصة حمزة كشغري هي اختبار حقيقي لصدق ما ندعيه من تسامح واحترام لحرية التفكير والتعبير. إنها امتحان للمثقفين والليبراليين ومن يصفون أنفسهم بالناشطين الحقوقيين، بل إنها امتحان للجميع، وللقيادات الفكرية والسياسية ولعلماء الدين، الذين يسعون إلى أن يقدموا أنفسهم للعالم بصورة زاهية براقة عنوانها السلام والمحبة والوئام. التسامح، والحرية، والمساواة، واحترام التفكير، والرحمة.. الرحمة، التي وهبنا الله نحن البشر نفحة قدسية منها، ليست هذه الكلمات إلا عبارات جوفاء نلوكها ولا ندرك معناها. فالرحمة التي تسبغها الأم على رضيعها، ما هي إلا واحدة من تسع وتسعين رحمة استأثر بها الرحمن وكتب في اللوح المحفوظ "إن رحمتي سبقت غضبي". إذا استمعتم إلى حديث أم حمزة على التلفزيون وهي تشكو مصابها، وحزنها على ابنها، وهي تنطف رحمة به، فاعلموا أن الله في علاه، أرحم بحمزة من أمه بمئة مرة. كان أصحاب الرسول، صلى الله عليه وسلم، ينقلون إليه ما يتفوه به عبدالله بن أبي بن سلول، وهو بين أتباعه، وهي كلمات تحمل ازدراءً للرسول الكريم وتنقيصاً وشتماً وسخرية، وقد ذكرها القرآن الكريم في مواضع وفصلتها السيرة والسنة، ولكن الرسول صلوات الله عليه، كان يتغاضى عنه ويحسن إليه، وحين مات ابن سلول ألبسه الرسول صلى الله عليه وسلم بُردته وصلى عليه، وأوكل سريرته إلى الله. وكذلك الذين نقلت كتب الصحاح والتفسير قصتهم، والذين نزل فيهم القرآن: "لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرتمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ"، حيث قضوا سهرتهم يهزأون بالرسول ومن معه، وقد وبخهم وعنفهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقبهم ولم يعرضهم على السيف، بل عادوا من الغزوة مع الرسول إلى المدينة، وانقلبوا إلى أهاليهم آمنين، ولم يهرب منهم أحد خشية من القتل أو السجن أو الأذى الجسدي الذي قد يطولهم. فكيف بشاب مسلم قال كلمة متأولاً فيها، واعتذر مرات عديدة، ومع ذلك ما زالت حفلة الشواء قائمة؟ إن التسامح يعني أن تكون قادراً على تفهم الطرف الآخر، ومعرفة مقصده، ومنحه دائرة واسعة من التأويل والتفسير لحمله على أحسن المحامل. لقد حشدت الصحف ووسائل الإعلام ومواقع الإنترنت طاقاتها لملاحقة شاب عبّر عما يجيش في نفسه من أسئلة وأفكار، ربما أن الملايين منا يدفنونها في صدورهم ويبوحون بها لخلصائهم، وتظهر على فلتات ألسنتهم عند النقاش. فمن منا -نحن البشر الضعفاء- بلا شكوك وبلا خطيئة؟ لقد أصبحت قصة حمزة كشغري استثماراً لكل من أراد أن يغطي على سوأته، أو ينتهز الفرصة لصناعة نجوميته، أو يسعى إلى أن يرمم سمعته الملوثة بفضائحه الأخلاقية، أو أراد أن يجعلها فرصة للتحريض على تيار من المثقفين لولاهم لأطبقت البلاد بظلمتها. إن أسوأ ما يمكنك أن تراه، هو أن تجد رموز التكفير من المتطرفين والغلاة والخوارج بلحاهم وقد احتلوا الفضائيات وعاثوا فيها فساداً. كيف يمكننا أن نقدم أنفسنا للعالم بأننا مجتمع متسامح، نعقد المؤتمرات للحوار بين الديانات، ونقيم مؤتمرات الحوار الوطني بين فئات وطوائف الوطن، وننفق مئات الملايين على الدعاية للتسامح، ولكننا ننخرط بكل فئاتنا وشرائحنا، ونجند كل طاقاتنا ومؤسساتنا لملاحقة شاب قال كلمة؟ وقد تكون كلمة كفر أو ردة حسب ما يراه بعضنا، ولكنه في أسوأ الأحوال قد يكون منتحلاً ديناً أو متحولاً إلى عقيدة يؤمن بها مئات الملايين ممن نبسم في وجوههم ونمد أيدينا إليهم، وندعوهم إلى التسامح ونعبر لهم عن تفهمنا لاختلافهم. ما من صاحب ديانة غير مسلم، ما من تابع لطائفة، إلا وهو يدين بنقيض إيماننا، وبما نراه سباً وشتماً وتنقيصاً لما نعتقده أو نقدسه، ولهذا قال القرآن: "ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك".