ظهر تعدد القوى في الفترة الأخيرة بل تضاربها مثل الميدان والبرلمان، الثورة والدولة. وهناك قوة ثالثة بيدها السلطة الفعلية وحق إصدار القوانين وهي المجلس العسكري، وقوة رابعة محاصرة بين المطرقة والسندان، بين الميدان والبرلمان، بين البرلمان والمجلس العسكري، وهي قوة أو لا قوة الحكومة المعينة من المجلس العسكري التي لم يخترها البرلمان المنتخب من قبل الشعب. وهناك قوة خامسة هي قوة المجلس الاستشاري وهذه قوة معنوية استرشادية لا سلطة لها على المجلس العسكري ولا على الحكومة. وهناك قوة سادسة غير منظورة، قوة الرئيس الذي لم يتم انتخابه بعد، وقوة الدستور الذي لم يتم وضعه بعد، وقوة القضاء التي تحتاج إلى سلطة تنفيذية تنفذ أحكامه مثل الحد الأدنى للأجور الذي لم ينفذ بعد على رغم صدور حكم قضائي به، وهو ألف ومائتا جنيه. ثم ظهرت قوى خفية، اللعب الخفي، هذا الأسبوع وراء الحوادث الأخيرة في ملعب بورسعيد وملعب القاهرة ثم امتدادها إلى باقي المدن المصرية، والتركيز أمام وزارة الداخلية باعتبارها هي المسؤولة عن عشرات الضحايا ومئات الجرحى. وهي قوة الثورة المضادة التي استعدت خلال عام حتى تبدأ في عيد الثورة الأول بعد أن أُخذت على حين غرة يوم انطلاق الثورة، وهزمت فيما يسمى موقعة الجمل. وهي ليست مؤامرة خارجية مثلما تفسرعادة بالحركات الاجتماعية والسياسية المناهضة للنظام القائم كما يحدث الآن في تفسير الثورة السورية. بل هي قوى داخلية منظمة لديها المال من رجال الأعمال ولديها القيادة من داخل سجن طرة والمستشفى الأميركي في طريق الإسماعيلية. ولديها الرجال، رجال الحزب الوطني المنحل الذي ما زال متغلغلاً في أجهزة الدولة خاصة رجال الشرطة وأجهزة الأمن الذين استفادوا من النظام سلطة وثروة. لقد جربت العنف عدة مرات ولم يؤاخذها أحد، قطع الطريق، الاستيلاء على العربات، السطو على البنوك، دهم الشقق المغلقة في المدن الجديدة لزعزعة الأمن والاستقرار، وربط ذلك بالثورة. لقد فاجأتهم الثورة منذ عام دون أن يستعدوا لها. والنموذج السوري اليمني يشجع على مواجهة الثوار بالسلاح حتى يتم القضاء عليهم أو الاستسلام. والجامعة العربية مكتوفة الأيدي، ومجلس الأمن يعبر عن ميزان القوى الدولية ويُواجه أي قرار بـ"الفيتو" روسيا والصين لمصالحهما مع النظام. لقد فقد النظام السابق السلطة والثروة في أقل من ثلاثة أسابيع. وتحول من القصر إلى المعتقل. وهو الآن يعود بعد عام بعد أن مر الاحتفال بسلام سواء بالنصر أو باستكمال أهداف الثورة. وهو الآن يعود للانتقام بعد أن نظم صفوفه. وكانت حوادث بورسعيد مجرد الشرارة الأولى. أُعد لها جيداً. غاب المحافظ. وغاب مدير الأمن. ودخل الجمهور بلا تفتيش حتى تدخل الأسلحة البيضاء، السيوف والسكاكين والمطاوي، والعصي. وأغلق الباب حتى لا يهرب الجمهور. وأطفأت الأنوار حتى لا يرى أحد مَن يقتل مَن. وبدأت المذبحة. وكانت إشارة البدء لحرق ملعب القاهرة حتى يثور الشباب، ويتدخل "بلطجية" الحزب المنحل والمأجورون، ويقع مزيد من القتلى والجرحى. وتمتد نار بورسعيد إلى باقي المدن. ويتحول التحزب للأندية إلى صراع سياسي. وتشيع الفوضى فلا يعرف الشعب من هو الثائر. وتستمر أحداث "ماسبيرو" ومحمد محمود والشيخ ريحان ووزارة الداخلية حتى يأخذ المجلس العسكري موقفاً لحماية مؤسسات الدولة دفاعاً عن هيبتها وحماية للممتلكات العامة. فالثورة تعطيل لمصالح الناس وإراقة للدماء. وما زال التحقيق جاريّاً للأخذ بقصاص يناير الماضي. والآن لحق بهم ضحايا آخرون في الشهرين الأخيرين، ولا أحد يطالب بالقصاص لهم، فمن حق الشرطة وقوات الأمن الدفاع عن النفس. بل إن الشعب نفسه بدأ يطارد المعتصمين أمام "ماسبيرو" مرة من ناحية بولاق ومرة أخرى من ناحية وكالة البلح لأن الثورة تعطيل للمصالح، وإيقاف للمواصلات، وغلق للمحال، وإيقاف للتعامل التجاري، وخسارة للملايين في البورصة. ومما شجع الثورة المضادة على تجميع قواها تباطؤ المجلس العسكري في تحقيق أهداف الثورة إلى درجة شك الثوار في نواياه. هل هو مع الثورة أم مع النظام السابق؟ هل له وجهان: وجه مع الثورة بدليل حمايتها حين اندلاعها، ووجه مع النظام السابق بدليل عدم استكمال تحقيق أهدافها، وبطء المحاكمات لرموز النظام السابق وعلى رأسهم الرئيس المخلوع ووزير الداخلية وأعوانه، والاصطدام بالثوار في "ماسبيرو" ومحمد محمود والشيخ ريحان والداخلية، والتباطؤ في تسليم السلطة للمدنيين، وشغل الناس بانتخابات مجلس الشعب ثم مجلس الشورى ثم بالرئيس أولاً أم الدستور أولاً، ثم بلجنة وضع الدستور. وقد تقع حوادث بعد استقواء الثورة المضادة تجعله يمد الفترة الانتقالية بعد آخر يونيو حرصاً على الأمن والاستقرار كما مدها من قبل منذ ستة أشهر إلى عام ونصف العام لاستكمال خطوات التحول الديمقراطي. لم يعد أحد قادراً على التفرقة بين الثوار والبلطجية، شبيحة مصر، بين الشباب الثائر والمندسين المأجورين من النظام السابق. يدفعون إلى الحد الأقصى من الغضب بالاعتداء على الشرطة وأجهزة الأمن وحرق المباني العامة والتحول من المظاهرات السلمية إلى العنف المسلح حتى تستعمل الشرطة السلاح، عنفاً بعنف، وحتى يتدخل الجيش. وتزداد المسافة بينه وبين الثورة. وينتهي شعار "الجيش والشعب إيد واحدة" إلى شعار "يسقط يسقط حكم العسكر". وقد يصطدم الثوار بجماهير الشعب التي لا ترى الحكمة في استمرار التظاهرات والاعتصامات وتعطيل مصالح الناس، ومراحل التحول الديمقراطي تسير سيراً حثيثاً من انتخابات مجلس الشعب إلى انتخابات مجلس الشورى إلى انتخابات الرئاسة إلى وضع الدستور، وتسليم الجيش السلطة إلى المدنيين، والعودة الآمنة إلى الثكنات بعد أداء دوره في المحافظة على الثورة في البداية وحمايتها حتى النهاية على رغم الشكوك حوله، والاتهامات ضده، واستمرار سقوط الضحايا. إن ما قامت به الثورة المضادة في عيد الثورة الأول إنما هو بداية الهجوم المضاد على الثورة وإعلان الحرب عليها ما دامت الثورة لا تحمي نفسها ولا تجد من يحميها إلا الشباب الذين يواجهون بصدورهم النار، ولا يعبأون بالموت. وقد يحدث الانقلاب على الثورة من المجلس العسكري نفسه الذي فوضه الرئيس المخلوع سلطاته وما زال متمسكاً بها بدعوى الحفاظ على الأمن والاستقرار. ولو كان راغباً في السلطة لقام بانقلاب على الرئيس المخلوع وأخذها وأصبح السلطة الشرعية في البلاد. وقد تحدث من الجيش نفسه بعد أن ضاق ذرعاً بالجميع، الميدان والبرلمان والمجلس العسكري والحكومة والقضاء. والبرلمان مشغول باللجان ورئاستها، والسلطة وممارستها. ويتشتت الثوار بين مختلف التيارات خاصة تلك التي لم تحصل على شيء في النهاية على رغم أنهم هم الذين قاموا بالثورة في البداية. ويمل الشعب كل هذه الفوضى التي لم تحقق أهداف الثورة وأصبحت بديلاً عن الأمن والاستقرار. بل قد يمل الثوار أنفسهم فكل نار تنطفئ في النهاية. ولذلك على الثورة أن تنقذ نفسها. وتحمي نفسها بنفسها مثل الثورة السورية التي لم تنفعها قرارات الجامعة العربية ولا قرارات مجلس الأمن. تخلص نفسها من "البلطجية" وممن يريدون تحويلها من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة. توقع البلاد في حرب أهلية، تسفك مزيداً من الدماء. تستكمل انتخاب الرئيس، ووضع الدستور. وتتسلم الحكم من المجلس العسكري. وتشكل حكومتها من البرلمان والميدان معاً، من البدن والروح. وتطهر نفسها من العناصر الدخيلة، من فلول النظام السابق وعناصر الثورة المضادة. تستكمل تحقيق أهداف الثورة بإيقاع أسرع حتى تحافظ على نفسها، وثقة الناس فيها. فالتاريخ معها. وإنما بقاء الباطل في غيبة الحق عنه. (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).