يحاول جورج سوروس في كتابه الذي نعرضه هنا، "الاضطرابات المالية في أوروبا والولايات المتحدة"، تفسير ما يجري من أزمة مالية خانقة تهدد الصرح الأوروبي، ليس فقط في جانبه الاقتصادي، بل تمتد تداعياتها أيضاً إلى عملية الاندماج السياسي والبناء الاجتماعي. كما يسعى الكاتب بالاعتماد على خبرته الطويلة كمستثمر عالمي وخبير في الشؤون الاقتصادية والمالية، لرسم مآلات الأزمة الأوروبية، فيرى أنه رغم الجهود التي بذلتها الدول الأوروبية للخروج من الأزمة وإنقاذ حلقة اليونان الضعيفة التي حركت مياه أوروبا الراكدة، ما زالت الأزمة في أطوارها الأولى وفي انتظار تداعيات قد تكون أسوأ مما يتخيل القادة الأوروبيون. ويقول المؤلف إنه قدم مجموعة من الاقتراحات والحلول للمسؤولين الأوروبيين باعتبارها الطريق الأمثل للتخفيف من حدة الأزمة، لكن الأوروبيين وعلى رأسهم ألمانيا التي تقود الجهود الأوروبية حالياً، يستندون إلى مقاربة مغايرة. ويقترح المؤلف تدخل صندوق دعم الاستقرار المالي الأوروبي الذي أُنشئ في وقت سابق، وآلية الاستقرار الأوروبي التي حلت مكانه لتقديم ضمانات للبنك الأوروبي المركزي تشجعه على ضمان سندات خزينة الدول المتعثرة، والتي هي بحاجة لتمويل ديونها، مثل إيطاليا وإسبانيا، ما سيسمح لها بالاستمرار في الحصول على قروض بأسعار فائدة لا تتعدى 1 في المئة. فضمانة البنك المركزي الأوروبي في نظر سوروس كافية لإقناع البنوك الخاصة على شراء تلك السندات، ومن ثم توفير السيولة الضرورية للدول ولحمايتها من شبح الإفلاس، وتحاشي التعثر في السداد... لكن السلطات المالية الأوروبية رفضت هذا المقترح وفضلت بدلاً منه خطة طويلة المدى توفر بموجبها السيولة للبنوك الخاصة عوض الدول نفسها ذات الخزائن الفارغة. ويوضح المؤلف نقائص الحل الأوروبي المعتمد في أنه يسمح للبنوك الخاصة في إسبانيا وإيطاليا، بعد ضخ أموال أوروبية في خزائنها، بشراء سندات الخزينة التابعة لدولها والانخراط في عملية مربحة تقترض من خلالها تلك البنوك بسعر فائدة منخفض لشراء السندات ذات المردود العالي. والفرق واضح بين الخطتين، حيث تساعد خطة سوروس في خفض سعر فائدة الاقتراض بالنسبة للحكومات، فيما الثانية التي تعتمدها الدولة الأوروبية حالياً تُبقي الحكومات والبنوك على شفا التعثر والإعسار. والمشكلة الأخرى أن ألمانيا التي تدفع في اتجاه الحل الثاني باعتبارها المقرض الأول في أوروبا تمضي في سياسات تكرس الأزمة، فهي تفرض على البلدان التي تدخلت لإنقاذها خفضاً كبيراً في نفقاتها لمعالجة العجز المالي، وهو ما يدخل تلك الدول مرحلة الانكماش ويوقف عجلة نموها. وبانكماش الاقتصاد ترتفع حصة الدين الحكومي من الدخل المحلي الإجمالي، ما يتطلب معاودة تقليص الموازنة عن طريق الاقتراض، فتصبح الاستدانية من أجل خدمة ديون سابقة وتدخل الدول في دائرة مفرغة يصعب الخروج منها. والحال أن السياسية الألمانية التي لا يمكن لومها، كما يقول الكاتب، لأنها أنجى اقتصاد أوروبي حالياً، قد تكون لها انعكاسات سلبية على الدول الأوروبية، لاسيما لناحية إطلاق ديناميكية سياسية مختلفة توقف عجلة الاندماج الأوروبي وتؤجج الخلافات بين الأعضاء. لكن هل مشكلة الديون والأزمة المالية التي تغرق فيها الدول مجرد عملية تقنية يمكن إنجاحها بتغيير المقترحات المطروحة، أم أن الأمر يستدعي أكثر من ذلك؟ يجيب الكاتب على هذا السؤال بالرجوع إلى المشروع الأوروبي الموحد الذي انطلق بخطوات تدريجية كانت أهمها معاهدة ماستريخت لعام 1992 التي مهدت لقيام عملة أوروبية موحدة في عام 2002، لكن ما يميز عملية البناء الأوروبي أنها تمت بخطوات وبوعي تام بأن البناء في كل مرحلة غير مكتمل ويحتاج للمزيد. فقد خمن الأوروبيون المؤسسون لاتحادهم أنه حتى بالوصول إلى العملة الموحدة لن يكون ذلك نهاية المطاف، بل هي خطوة في طريق الاندماج السياسي، وفي غياب هذا الاندماج تبقى العملة الموحدة هشة للغاية، وهو ما أكدته أزمة اليونان التي ما أن انطلقت حتى ظهرت اختلالات اليورو ومعها عيوب معاهدة ماستخريت، فالمعاهدة لا تتيح تصويب الأخطاء في بنية اليورو، ولا تتضمن آلية ترغم الدول الأعضاء على دفع الديون، ولا إمكانية لخروج الدول أيضاً من اليورو، بالإضافة إلى تعذر لجوء الدول إلى طبع الأوراق المالية. أما القوانين المنظمة للبنك الأوروبي المركزي فتمنعه كلياً من إقراض الدول رغم أنه يقرض البنوك الخاصة. لكن ما الذي يخبئه المستقبل للوضع الأوروبي في حال استمر التدهور الاقتصادي؟ يرى الكاتب أن ذلك سيؤثر بالقطع على الوضع السياسي للدول الأوروبية وعلى البناء الديمقراطي الذي كان الفكرة المؤسسة أصلاً للاتحاد، محذراً من بروز بعض الظواهر، مثل معاداة الأجانب وعودة العنصرية والانغلاق الاجتماعي والتراجع عن المكتسبات الديمقراطية، مثلما تشهده حالياً المجر. زهير الكساب الكتاب: الاضطرابات المالية في أوروبا والولايات المتحدة المؤلف: جورج سوروس الناشر: بابليك أفيرز تاريخ النشر: 2012