شهدت دول منطقة الخليج في النصف الثاني من العقد الماضي موجات متواصلة من ارتفاع الأسعار، حيث وصلت معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة تجاوزت 15 في المئة في بعض البلدان، وقابلتها إجراءات للحد من هذه الظاهرة، سواء من خلال زيادات الأجور أو من خلال مراقبة الأسعار التي لم تحرز الكثير من التقدم بسبب عدم تقنينها. ومع أن ظاهرة الغلاء، ظاهرة عالمية، إلا أنها ارتبطت في دول الخليج بتضاعف أسعار النفط وبوجود قيود على تجارة السلع والخدمات من خلال نظام الوكالات التجارية التي يبلغ عددها 120 ألف وكالة في دول المجلس، وهو نظام لم تتغير نصوصه الأساسية منذ أكثر من خمسين عاماً، وذلك على رغم انضمام معظم بلدان المنطقة لمنظمة التجارة العالمية التي تمنع الاحتكار بكافة أشكاله، لما له من ضرر على التجارة وعلى المستهلكين بشكل عام. وفي الأسبوع الماضي اتخذ مجلس الوزراء في الإمارات قراراً مهمّاً للغاية يتعلق بتحرير تجارة السلع الغذائية الرئيسية، حيث يشكل مثل هذا القرار منعطفاً ستكون له آثار إيجابية عديدة ليس على مستويات الأسعار فقط، وإنما أيضاً على هيكلية التجارة الداخلية التي ستتخذ منحى تنافسيّاً سيمنح أسواق الدولة أفضليات في تجارة السلع المحررة. ومع أن القرار واجه بعض الحذر من قبل أصحاب وكالات هذه السلع، إلا أن هذه المحاذير لا يوجد لها ما يبررها، فعُمان والبحرين سبق لهما أن قامتا بتحرير التجارة، حيث كانت لذلك نتائج إيجابية على مستوى الأسعار وعلى مستوى التجارة الداخلية، فمستويات الأسعار أصبحت أكثر قبولًا، في الوقت الذي لم يتضرر فيه الوكيل الأصلي الذي أبدى تخوفاً مماثلاً في بداية التطبيق، بل إنه عمد إلى تحسين مستويات الخدمة لديه واكتسب خبرات تسويقية جديدة ساهمت في زيادة مبيعاته، مما شجعه على القبول بالأسعار الجديدة، وخصوصاً أن أرباحه تزايدت بفضل حجم المبيعات المرتفع. وفي المقابل دخل السوقين العماني والبحريني موزعون جدد وجدوا لأنفسهم مكاناً تنافسيّاً، ومع أن حصتهم في السوق بقيت متواضعة، إذا ما قورنت بحصة الأسد التي بقيت للوكيل الأصلي الذي بذل جهوداً تطويرية للمحافظة على حصته، إلا أن الموزعين الجدد شكلوا عامل توازن لجودة المنتجات وللأسعار في السوقين الخليجيين. ويشكل نظام الموزعين المعمول به في معظم بلدان العالم، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بديلاً نموذجيّاً لنظام الوكيل، ففي النظام الأول يتيح القانون لأكثر من موزع أن يقوم باستيراد السلعة نفسها ضمن المواصفات المعتمدة، حيث يكون البقاء للأفضل. ومن جانب آخر، فإن العديد من الأنظمة الاقتصادية والتجارية المعمول بها سابقاً في بلدان المنطقة لم تعد ملائمة ولا تتناسب مع التغيرات الاقتصادية التي حدثت في السنوات القليلة الماضية، وبالأخص النمو الملفت للاقتصاد المحلي والاقتصادات الخليجية، بما في ذلك إقامة السوق الخليجية المشتركة. ولذلك، فإن الأنظمة التجارية السابقة أصبحت عائقاً ليس أمام تقديم الأفضل والأقل سعراً فحسب، وإنما أمام الاندماج الاقتصادي الخليجي أيضاً، فمجلس الشورى القطري على سبيل المثال يسعى للمرة الثالثة على التوالي إلى رفض السماح للخليجيين بامتلاك الوكالات التجارية، حيث توجد موانع مماثلة في بقية دول المجلس، مما يعني أن نظام الوكالات أصبح قضية حساسة لما يوفره من امتيازات يمكن تلافيها من خلال توفير فرص المنافسة المتساوية. والحال أن قرار مجلس الوزراء بتحرير تجارة المواد الغذائية ستكون له تداعيات إيجابية ستؤدي إلى تخفيض الأسعار ومعدلات التضخم، وخصوصاً إذا ما تجاوب أصحاب وكالات تجارة السلع الغذائية وتجنبوا رفع الأسعار بصورة مصطنعة لا تتناسب وارتفاع الأسعار عالميّاً، كما أنه يمكن لمخازن الأغذية، كالجمعيات التعاونية ومراكز التسوق الكبيرة، التجاوب مع هذا القرار والمباشرة في الاستيراد المباشر في حال ارتفاع الأسعار عن معدلاتها الطبيعية، مما سيصب في نهاية المطاف في صالح الاقتصاد المحلي وفي صالح المستهلكين الذين سيحصلون على سلع وخدمات أفضل جودة وبأسعار مناسبة.