"لم يزاحمني أحد في بطن أمي، بطن (ديلوكس) لي وحدي. صحيح أن المكان كان مظلماً ولم يكن جديداً وسَكَنه قبلي عشرة أشخاص، إلاّ أنني حين تكوّنت هناك كنت بمفردي، متكئاً على كبد أمي، آكل وأشرب على أقل من مهلي". بهذه العبارة يستهل الكاتب الإماراتي أحمد أميري كتابه "الأكول". والكتاب سيرة ذاتية للمؤلف، أو حسب عنوانه الثانوي "سيرة بطن"، وليس بطن المؤلف وحده بل "مجتمع الإمارات الذي يحتل المرتبة الثامنة عالمياً في نسبة البدانة"، و"سكان هذا الكوكب الذي يسقط في هوة الفراغ بسبب زيادة ثقله، لأن ملياراً وستمئة مليون سمين، وأربعمئة مليون مصاب بالبدانة المفرطة يعيشون فوقه". يبدأ المؤلف سيرته كأنه قادم من كوكب آخر، بـ"الهبوط على سفرة الطعام"، وهو عنوان أول قطعة في الكتاب الذي يتكون من 89 قطعة تحكي قصته منذ "انتهاء فترة الفطام، ومع أول اعتراف رسمي بوجودي ضمن الآكلين، عرفت الحقيقة، وهي أنني طُردتُ من الجنة نهائياً، فقد وجدت نفسي أتعذب على السفرة: عشرة من الشقيقات والأشقاء". وعلى طاولة الطعام سيتعلم أول دروس الحياة مع الجماعة: "سرعة الأكل"، و"عدم الكلام". والجماعة ليست الأسرة وحدها، بل ينضم إليها في أكثر الأحيان "ضيوف الرحمن، وأبناء الجيران، والأقارب الذين يخرجون لنا من الحيطان". وبيت أميري "متواضع من فئة الثلاث نجوم، لكن المطبخ من فئة السبع نجوم". فهناك عشرات القدور للأرز، حسب عدد الآكلين، وقدور للمرق وللباجه، وللبلاليط، وللهريس، ودِلال للشاي، وللقهوة والحليب، والطناجر، والأطباق والصواني والأكواب والفناجين و12 ثلاجة مخصصة للفواكه والخضراوات والأعشاب الجافة، واللحوم والأسماك. والأم "تطبخ للضيف الواحد ما يكفي لعشرة، وللعشرة ما يكفي لمئة، ونبدأ نحن الأشقاء الأربعة في الانتقام من الطعام وهو فوق رؤوسنا على الصواني"، فيما كانت الأم "تصر على ظهورنا أمام الضيوف بمظهر النبلاء والأرستقراطيين: نأكل ببطء، ونأكل قليلاً". وأميري من آخر أجيال إماراتية فتحت عيونها على شظف العيش قبل فورة الغنى التي أدخلت في حياتها "الخدم والحشم". عيناه وذاكرته من ذاك الزمان، ومعدته وشهيته مفتوحة على الزمان الحالي. وما بين الزمانين نبتت "البذرة الفموية" كما يسميها. وهي ليست بذرة أكل فحسب، بل بذرة كلام حاد السخرية ومقذع أحياناً يلاحق الأكل والأكولين من أشهر المطاعم حتى أحقر غرف التواليت في المدينة، ولا يستثني حتى بيته الذي "لا يؤمن بالديمقراطية حتى في الأكل... فأنت تأكل ما وكيف ومتى أرادوا". وسيخرج عن البيت ببطنه وهو مراهق يأكل في مطاعم الكباب والشاورما. "فتتضاعف وجباتي من ثلاث إلى ست، ويتضاعف حجمي من شخص إلى شخصين"، ويقع في "دائرة الأكل المغلقة، فمع ازدياد وزني صرت أتحسس من أي نصيحة أو تعليق أو توضيح يتعلق بالأكل أو الوزن.. وكلما نصحوا وتكلموا هربت إلى الأكل لأشعر بالراحة والحصول على لذة الأكل التي تملكتني وصارت شغلي الشاغل". وفي عمر الحب اكتشف أن "مجرد التفكير في الأنثى كان أمراً محزناً، فكيف لفتى يغازل فتاة بينما صدره أكبر من صدرها"؟ والبدين سجين بدانته، "لم يحدث أن تذكرت أنني أنا إلاّ تذكرت أنني بدين". والكتاب كله صراع مرير للتحرر من البدانة والعبودية للطعام. "كنت أحلم بفتح صفحة جديدة مع الأكل بعد الزواج. فليس هناك أي عائق أمام طي الصفحات القديمة غير الصحية في حياتي والتمتع بجسم رشيق". وجرّب رياضات الجري، والأيروبيك، والسباحة، وكمال الأجسام. وفشلت محاولاته جميعاً، كفشله في الحب، والسبب واحد في جميع الأحوال، وهو قانون السمنة في المنطقة. "فمتى أحببتُ فتاةً قررت أن أتخلص من وزني الزائد لأجل عينيها. ولأن الحب كان قليلاً، والطعام كان لذيذاً، والفلوس كثيرة، والرياضة مملة وشاقة، فقد كنت معظم الوقت مترهلاً ومتخماً بالأكل والطيبات وقلبي كأنه الربع الخالي". وكتاب "الأكول" باقة من معلومات وأقوال في الأكل وضد الأكل لمفكرين وفلاسفة كأرسطو وبوذا ودانتي وإخوان الصفا والمعري وابن مسكويه وسبينوزا، وحتى عالم الاجتماع العراقي علي الوردي. ويحظى بأكبر حيز في الكتاب "الشخص النموذجي" المجهول "العصي على التصنيف، سوى أنه الإنسان الكامل على المائدة". كل شيء فيه أبيض، ملابسه وغترة رأسه ولحيته وشارباه الكثان. "لم أعرف الحكمة والفضيلة والاعتدال والترفع والإيثار إلاّ منه ومعه". يعيش في مدينة العين حيث جبل "حفيت"، ويعمل طوال الوقت مجاناً لوجه الله. و"حين يسأله السائل: لم لا ترتح وأنت في هذا العمر، يقول: لا يحق لمن لا يعمل أن يأكل". ومقابل "الشخص النموذجي" نحو أربعين أكولاً يصنفهم قدماء الباحثين العرب، بينهم "الصوّات" الذي يسمع صوت أكله، و"النفّاض" الذي يجعل اللقمة في فمه وينفض أصابعه في المائدة، و"القرّاض" الذي يقرض اللقمة بأسنانه ثم يضعها في الطعام، و"المبعبع" الذي يأكل اللقمة وهو يبعبع كالجمل، و"المهندس" الذي يقول ضع هذا الطبق هنا وهذا هناك حتى يأتي قدّامه ما يحبه. وفي الإمارات لا تَعجَبي من بدانتي، رشاقتي هي العَجَبُ. فالبلد يضم جنسيات أكثر مما في الأمم المتحدة من دول؛ 202 مقابل 191 أحصى أميري مطاعمهم وجرب أطعمتها وصنّفها. وأنا أكتب هذا المقال تحت تأثير صحن "كبدة البط مع البصل الأخضر" أعدّه رئيس طباخين فرنسي في واحد من أشهى هذه المطاعم؛ وهو "السفرة" بفندق "شانغريلا" في أبوظبي. وأستبعدُ أن يكون مصيري كأميري الذي وقع في غرام فتاك بالبط منذ تذوقه أول مرة في مطعم "فلفلة" بالقاهرة، وأنا اخترت صحن البط لأسباب تاريخية، فهو من إبداع قدماء المصريين قبل أربعة آلاف عام، واكتفيتُ منه بشريحة كبد البط على شريحة خبز أسود، وأتبعته بكافيار روسي على شريحة خبز أبيض، ثم حساء الحريرة المغربي. ولم أجرب صحون اليوم الفيتنامية واليابانية والهندية، باستثناء رز دجاج برياني. ولم أقرب حلاوة "أم علي" لأن الطريق إليها ملغوم بخمسة أنواع آيس كريم أقعدتني عن الحركة. ومع الشاي أصغيت لقصيدة تكتم الأنفاس باللهجة الإماراتية للزميلة في صحيفة "الاتحاد" الشاعرة نوره المزروعي: "حِزٍن خيلْ على ما يبدو إنك خذلته. عايش في ظلام الليل همّا طويل. ما احتمل قلبه لحظة يو إنك نكرته. اتعب خطاي ممشى في دروب الرحيل. شوف أنظر لحالي، كيف إنك تركته، خيلْ جامح وحزنه دمعتين وصهيل". وغبتُ عن الوجود لحظة اختلط الشعر الإماراتي وصوت مغنية مطعم "السفرة" الإنجليزية تغني الأغنية المشهورة. "فردوسْ...أنا في فردوسْ، ودقات قلبي تمنعني من الكلام، ربما عثرتُ على الحب الذي أبحث عنه. عندما كنا نرقص سوية خداً لخد. فردوسْ... أنا في فردوسْ".