حين يتحدّث اللبنانيّون عن تناقضهم الطائفيّ فإنّهم ينزعون إلى تجاهل تناقض آخر لا يقلّ تأثيراً، كما أنّه يتقاطع مع الطائفيّ ويتداخل فيه بحيث يغدو من بالغ الصعوبة فصل واحدهما عن الثاني. إنّه توتّر العلاقة المزمن بين الريف والمدينة. وقد انعكس البُعد هذا في النتاج الثقافيّ فيما كانت الحياة المادّيّة تبدي استعداداً متعاظماً لاستدخال الحداثة والاتّجاه غرباً. فقد أقلع الأدب اللبنانيّ كله في اتّجاه القرى، جاعلاً منها هويّته ومصدر شرعيّته، ومكتشفاً تعريفه الذاتيّ في انتسابه إليها: فأمين الريحاني هو "فيلسوف الفريكة"، وميخائيل نعيمة "ناسك الشخروب"، ومارون عبود "ناقد عين كفاع". أمّا جبران خليل جبران فيكاد لا يُذكر اسمه إلاّ مصحوباً ببلدته بشري ووادي قنّوبين. حتّى العروبيّ رشيد سليم الخوري أطلق على نفسه لقب "الشاعر القرويّ". فحين لم يُسمَّ الأديب باسم قرية سُمّي باسم الريف كله، أو باسم الطبيعة وتعاقبها ومنتوجها: فرشيد أيّوب يكاد لا يُذكر خارج "الثلج" الذي ذكّره "أهله بلبنان" وذكّره أمه والوادي في القرية. وأشهر قصائد إيليّا أبو ماضي مناداته "وطن النجوم"، هو الذي أصدر ديوانه "الجداول" عام 1927 في أهمّ مدن العالم وأشدّها كوسموبوليتيّة: نيويورك، قبل أن يُتبعه بـ"الخمائل". وغالباً ما يستعاد صلاح لبكي مرفقاً بقصيدة "هلّي فداك الدفء هلّي"، بينما يوصف فؤاد سليمان، صاحب "تمّوزيّات" بأنّه أديب "تمّوز". ولأنّ الريف منبت نظام القرابة، اتّخذ بعض أضلاع الحياة الثقافيّة اللبنانيّة شكلاً قرابيّاً بحتاً: فرشيد أيّوب خال ميشال طراد وهو من بسكنتا، قرية مخائيل نعيمة. وميشال طراد، بالمناسبة، وحسب وصف أحد الصحافيّين، "لم ينزل إلى بيروت إلاّ لماماً، ولا تورّط في النسيج الاجتماعيّ بما يتجاوز جيرانه وأصحابه وأهل بيته". وهناك، بالطبع، "المعالفة"، حَمَلة التعبير العشائريّ في وصف عائلتهم التي أنجبت عدداً من الشعراء والكُتّاب والصحافيّين. أمّا رشيد نخلة، الشاعر والزجّال الذي كتب النشيد الوطنيّ اللبنانيّ، فوالد الأديب والشاعر أمين نخلة، صاحب "المفكّرة الريفيّة". وفي حقبة لاحقة، ذهب الشاعر خليل حاوي أبعد من سواه في صياغته معانيَ بديلة وواقعاً مضادّاً للمدينة وللحداثة. فقد هجا تلك المدينة هجاء مُرّاً مسلّحاً بأخلاق ريفيّة لا يرفّ لها جفن. وفي طريقه جرف أوروبا بوصفها المدينة العليا أو المدينة المثال والأمّ. ولئن فرح اللبنانيّون الأكثر تنوّراً، في أواسط الستينيات، بظهور الرواية النسائيّة، فقد جاءت رواية إميلي نصر الله "طيور أيلول" تحدّثنا عن قرية نحبّها وريف خائف على نفسه من الهجرة والتحوّل. وكان عنوانا "لئلا تضيع" لسلامة الراسي و"حضارة في طريق الزوال" لأنيس فريحة، بالغي الدلالة على ما أسماه أحمد بيضون "أدب الحسرة". وقد كان بين دوافع الحسرة المتمادية، منذ الأب يوسف تاتي الذي عاش في القرنين التاسع عشر والعشرين، "أن كثيراً من هذه العوائد [العادات] سوف تذهب درج الرياح وتدخل عمّا قليل في خبر كان". وأوضح "تاتي" المذكور أن ما يخشاه بالتحديد "تهافت أهل الشرق(…) على التخلّق بأخلاق الأجانب وسلوك مناهجهم". فحين قُيّض للبنانيّين أن ينالوا استقلالهم في 1943، وأن يكتب أحدهم نشيداً وطنيّاً للبلد الوليد، تداعت الصور التي تقدّم الشعب آتيّاً من الطبيعة كـ"أُسد غاب"، سهلُه والجبل "منبت للرجال"، فيما النساء لا منبت لهن فيه! والحداثة والطبيعة يصعب أن تلتقيا، فالأولى تكيّف النظر إلى الثانية وتحكمه، فلا يكون حديثاً جدّاً من يكون طبيعيّاً جدّاً. وهي تتيح للإنسان، بأدواتها وأفكارها، أن ينتقل من المواجهة التقنيّة لأخطار الطبيعة، إلى المواجهة الأخلاقيّة لأفعاله الإنسانيّة. لكنّ شرط ذلك أن يكون هو راغباً فعلاً في الانتقال وفي التمديُن وفي القطع. بدورها، لم تفعل مستجدّات الزمن بتحديثه ورأسماليّته وانفتاحه على العالم وتوسّع مدنه غير مفاقمة التهديد ذاك. هكذا، مثلاً، رأينا لحد خاطر، في 1974 و1977، يجمع "العادات والتقاليد اللبنانيّة" ويصدرها في جزأين. وأهمّ من ذلك ما جاء به الأخوان الرحباني على امتداد عقود، فهما لم يفعلا إلاّ التصويت للقرية وأخلاقها، مرّةً بعد مرّة، بالشعر واللحن والصوت. وراء ذلك يبدو كما لو أنّ شعوراً مُرّاً قد طغى، مفاده أنّنا مسوقون بالقوّة إلى الحداثة، نودّع الريف بغصّة من لا يريد البتّة أن يودّعه. وما يقال في لبنان الثقافيّ ينطبق، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على بلدان عربيّة أخرى. ففي مصر لم يُقلع التقليد المدينيّ فعليّاً إلاّ متأخّراً، مع نجيب محفوظ. وفي المقابل، فما بين "دعاء الكروان" لطه حسين في 1934 و"الجبل" لفتحي غانم في 1957 ظلّ الريف بيئة الرواية وكونها. وجاء الإصلاح الزراعيّ للستينات يحدّث الاهتمام بالريف بقدر ما يُقدّم نفسه تحديثاً للريف. ذاك أنّه ضاعف أهميّة الأرض بأن جعلها أقنوماً إيديولوجيّاً لا طبيعيّاً فحسب. بيد أنّ لبنان الصغير الحجم، والذي شهد حرباً أهليّة شهيرة، ولا يزال يعيش على تخوم حرب أهليّة محتملة في أيّة لحظة، عانى فتْك الوعي الريفيّ به بما لم تُعانِه البلدان الأخرى. ولم يكن عديم الدلالة أنّ القوى الحزبيّة التي خرجت منها المليشيات الطائفيّة المقاتلة هي كلّها ريفيّة الأصول، مشبعة بحذرها من المدينة واستهلاكها ومن نمط الحياة الغربيّ أو المتغرّب. وليس المقصود بالكلام أعلاه أيّ تهوين من حجم الصراع الطائفيّ بطبيعة الحال، بل ربطه بالصراعات الأخرى المؤثّرة، وعلى رأسها تناقض الريف- المدينة والصراع الطبقيّ- الاجتماعيّ، ومن ثمّ اكتشاف التأثّر والتأثير المتبادلين في ما بين هذه الأبعاد المتفاوتة. وهذا الهمّ، في ما أظنّ، لم يحظ بما يستحقّه من اهتمام، لا في لبنان ولا في باقي البلدان العربيّة، ربّما باستثناء مصر على نحو جزئيّ جدّاً.