مع بدء عيد العمال في أميركا الذي وافق يوم الاثنين الماضي ينطلق موسم كرة القدم الأميركية وحملة الانتخابات التمهيدية، بالإضافة إلى موسم الاستغلال السياسي لأرقام البطالة المرتفعة، وهي أمور تنافس جميعها على كسب أنظار الرأي العام واهتمام وسائل الإعلام، ومع أن الرياضة كانت دائماً تحظى بمتابعة إعلامية وجماهيرية واسعة، بالإضافة إلى الاعتقاد بأن النقاش العام حول مشكلة الديون التي طغت على فصل الصيف الحالي ولى دون رجعة، يبقى أن الجدل حول أفضل السبل للجم الدين المتنامي لم ينته بعد، إذ لم ينجح أوباما في تجنب اندلاع أزمة أخرى في واشنطن حول سقف الدين والدخول في صراع مرير مع الكونجرس إلا بعدما وافق على ما بات ينظر إليه كسيف مصلت على رقاب الحزبين، بل ذهب البعض إلى وصف الصفقة بأكثر من ذلك مشبهاً إياها "بالقنبلة النووية" الموشكة على الانفجار أو "بآلية الانتحار للضغط على الحكم"، والصفقة هنا تتعلق بتشكيل لجنة كبرى من قبل الكونجرس مكلفة بخفض العجز تتخطى في قوتها والصلاحيات الموكلة إليها حتى ملكة الخيال لدى المعلقين فراحوا يشبهونها بالقنبلة الموقوتة والسيف المعلق فوق الرقاب. ومع أن اللجنة يفترض بها دراسة الحلول المقترحة لتجاوز مشكلة العجز والديون، إلا أن تركيبتها ستضمن استمرار الجدل في واشنطن ودفع أوباما "والجمهوريين" في الكونجرس إلى تبني خيارات ستحدد في النهاية نتيجة الانتحابات الرئاسية عام 2012. والحقيقة أن اللجنة الكبرى ليست أكثر من فرصة أخرى منحت للصفقة التي كاد أوباما ورئيس الأغلبية "الجمهورية" في مجلس النواب، "جون بوهنر"، التوصل إليها خلال شهر يوليو الماضي والتي تجمع بين إدخال إصلاحات على برامج الاستحقاقات الاجتماعية للحد من النفقات وتعزيز المداخيل عبر فرض الضرائب، أو على الأقل إصلاح قانونها، وهي الصفقة أيضاً التي انهارت بسبب الاتهامات المتبادلة بين الحزبين والمشاحنات الأيديولوجية، فقد أضعف الليبراليون في الكونجرس حليفهم أوباما من خلال المطالبة برفع أكبر للمداخيل مقابل موافقتهم على مراجعة الاستحقاقات الاجتماعية فيما أضعف المحافظون "بوهنر" بمعارضتهم أي حديث عن رفض الضرائب وتعزيز العائدات الحكومية بما فيها اقتراحات بسد الثغرات في النظام الضريبي الأميركي. والمشكلة أنه بموجب الإجراءات المتبعة في الكونجرس والقانون الأميركي بهذا الخصوص الذي يتيح مجالاً أكبر للمعارضة وإفشال المقترحات كان من الصعب التوصل إلى اتفاق بشأن هذه الأمور، أو حتى فرضه من خارج الكونجرس. ومع أن التباعد الأيديولوجي ما زال قائماً بين الحزبين، يبقى المتغير الأهم هو إقرار قانون "مراقبة الموازنة" الذي سمح برفع سقف الدين وغيّر في قواعد اللعبة داخل الكونجرس من خلال فرض عقوبات على محاولة إفشال المقترحات والوقوف في وجه التوصل إلى اتفاق، وذلك من خلال خفض أولويات الإنفاق لدى الليبراليين والمحافظين على حد سواء حتى في ظل غياب اتفاق، كما أن المقترحات المشتركة للجنة ستكون محمية من أي محاولة للتعديل، أو التعطيل بمرورها مباشرة إلى النقاش في مجلسي النواب والشيوخ مع متمم السنة الجارية. هذا القانون الذي أتاح فرصة للجنة كي تعمل بمنأى عن العراقيل يمثل في النهاية محاولة ذكية ويائسة في آن معاً، لتجاوز عقبات الكونجرس، فهو من جهة يعترف بعجز التقاليد التشريعية في مجلسي النواب والشيوخ على مواكبة حالة الطوارئ المالية التي تهدد بتقويض مصداقية أميركا الائتمانية وهز الثقة بالحكومة الأميركية، هذا بالإضافة إلى سوابق في التاريخ لجأ فيها الكونجرس إلى الالتفاف على العراقيل لسن قوانين وإقرار خطط تصب في المصلحة العليا للوطن، لكن من جهة أخرى ليست اللجنة الكبرى سوى أداة لإنجاز ما يفترض أن يقوم به الكونجرس وهو بناء موازنة مسؤولة، واليوم تواجه هذه اللجنة خيارين، إما أن تعتمد مقاربة خجولة بتقديم مقترحات متواضعة للحد من النفقات لا تمنع من خفض تلقائي في الموازنة حسب القانون الجديد حتى وإنْ نجحت في الوصول إلى هدف 1.5 تريليون دولار لتقليص العجز، وإما تختار أسلوباً أكثر جرأة وتطلعاً إلى المستقبل بتبني مجموعة من الإجراءات مثل رفع السن بالنسبة للمتقاعدين المستفيدين من الرعاية الطبية وفرض رقابة على الاستحقاقات الاجتماعية الأخرى، فضلا ًعن إصلاح النظام الضريبي. وفي هذا السياق تتجه الأنظار صوب السيناتور "ماكس بوكوس" و"بات تومي"، فهذا الأخير يعتبر من صقور الموازنة دون التمسك بالمواقف المطلقة المناهضة للضرائب، فيما يبدو "بوكوس" منشغلًا باحتمال تعرض أميركا للإفلاس إنْ هي واصلت وتيرتها الحالية في الإنفاق وتراكم العجز المالي. ولحسن الحظ أظهر زعيم "الجمهوريين" مجلس النواب، بوهنر، وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ "ميتش ماكونل" استعداداً لافتاً لإبداء بعض المرونة وإدخال إصلاحات بسيطة على الاستحقاقات الاجتماعية، رغم أن ذلك سيفيد أوباما في حملته الانتخابية ولن يرضي تيار "حفلة الشاي". أما في حالة أوباما الذي سيتحسن موقفه الانتخابي أمام الرأي العام وتتقوى مؤهلاته التصالحية بتنازله في مجال الاستحقاقات، فإنه سيواجه انتقادات الليبراليين الذين سينظرون إلى تنازلاته باعتبارها خيانة لأجندتهم، وفي جميع الأحوال سيبقى النقاش حول العجز المالي ومعضلة الديون حاضراً بقوة في الساحة السياسية، بحيث سيكون على أوباما وبوهنر تحديد السرعة التي يريدان بها إنجاز الاتفاق على الموازنة. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"